علم النفس المعرفي قضايا النشأة والمفهوم
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
علم النفس المعرفي قضايا النشأة والمفهوم
علم النفس المعرفي
قضايا النشأة والمفهوم
عبد الكريم بلحاج
تمهيد:
يعد علم النفس بمثابة خطاب ومعرفة وممارسة له ما يميزه داخل حقل العلوم والمعارف من جهة، وداخل المجتمع والوجود الاجتماعي من جهة ثانية. فهو يتميز أيضا وأساسا باستقلالية علمية في موضوعه وفي مناهجه، وبالتالي كونه من حقول المعرفة الحديثة، فمنذ نشأته الفعلية خلال القرن 19 عرف عدة تطورات في طروحاته واشتغاله.
في هذا السياق يتحدد اعتبار علم النفس هو ذلك العلم من بين مختلف العلوم ومجالات الفكر، الذي يهتم بشكل أساسي بالإنسان (هذا من دون أن يتخلى عن دراسة الحيوان). فاهتمامه بالكائن الإنساني كأولية من حيث الموضوع يتجلى في رصد مختلف السيرورات النفسية والعقلية التي تنتظم وفقها حياته، وكذلك بالنسبة إلى ما يتعلق بتوافقه مع البيئة بصفة عامة. ثم أيضا، وبخاصة، أن علم النفس له اهتمامات نوعية منها ما يتعلق بدراسة وتحليل شخصية الإنسان، ومنها ما يختص بدراسة وفهم العقل. بطبيعة الحال فأنواع الدراسة هذه أدت تقليديا إلى تباين في الاختصاصات ومجالات الاشتغال، حيث إن تحليل شخصية الإنسان مثلا شكل مجال اهتمام التحليل النفسي وعلم النفس العيادي، بينما دراسة العقل على أساس الآليات والوظائف والسيرورات، فقد شكل اهتمام مجال علم النفس التجريبي وعلم النفس الفيزيولوجي، وحديثا أصبح الموضوع الرئيسي لعلم النفس المعرفي. إنه المظهر العام الذي طبع تقليديا علم النفس.
أما خلال النصف الأخير من القرن 20، فقد أصبحت السيكولوجيا العلمية مطالبة باتخاذ حلة جديدة وأصيلة، وهي تلك التي ستتمثل في صفة سيكولوجيا متميزة بتميز موضوعها: المعرفة cognition. من ثم فالسيكولوجيا العلمية ستصير بمعنى من المعاني مرادفة لعلم النفس المعرفي.
هذه المرحلة الجديدة سيطبعها أيضا التعاطي المنفتح مع قضايا وإشكاليات أتت من خارج المجال الخاص بعلم النفس، من: اللسانيات والمنطق والمعلوميات. باعتبار أن هذه المجالات ستساهم إلى جانب علم النفس في إعادة صياغة الموضوع والمهام، وستنخرط في شراكة وبدينامية في اتجاه مغامرة علمية جديدة.
أيضا خلال هذه المرحلة أخذت مفاهيم "رحال" مكان لها في معجم علم النفس[1]، كما أن بعض المفاهيم التقليدية سيعاد بعثها من جديد. إن علم النفس شهد تحولا عميقا سواء في صيغته كعلم أو في موضوعه ومناهجه، أو كذلك في مهامه وروابطه مع باقي المعارف والعلوم الأخرى. وهو التحول الذي سيؤثر بقوة في مسار علم النفس في الوقت الحاضر.
في النهضة المعرفية:
تاريخ علم النفس كفرع علمي مستقل له كيانه الخاص هو تاريخ يقوم على التطورات النظرية والمنهجية والمؤسساتية التي طبعت هذا الفرع، وكانت لها تداعيات متعددة، إن على المستوى العلمي والعملي أو على المستوى الفكري عامة. كما أن هذا التاريخ يقوم أيضا على إعداد وتشكيل مفهوم علم النفس ذاته[2]، والفترة الممتدة من أواخر القرن 19 إلى اليوم تبقى حبلى بالدروس فيما يتعلق بهوية ومحددات العلم. ينضاف إلى هذا، مسألة تمثيلية مكان علم النفس بين المجالات العلمية والفكرية القائمة والتي بدورها عرفت دينامية كان البعد الإبستمولوجي فيها مؤطرا وموجها لها. وهي دينامية تجاذبتها مواقف الرفض والقبول من جهة، ومواقف الوحدة والتعدد من جهة أخرى.
من البديهي إذن، التذكير بأنه خلال الفترة التاريخية المتراوحة بين أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 علم النفس أسس لوضعه كمجال علمي تجريبي[3]، وذلك بتحديده لموضوع الدراسة ومنهج الاشتغال، ومن ثم الانخراط ضمن النسق المنظم لحقل العلوم والمعارف. وهو الأمر الذي أدى بعلم النفس إلى إقصائه للحالات الذهنية états mentaux من مجال اشتغاله واهتماماته. على اعتبار أن الحالات الذهنية هذه لم تكن في المتناول سوى عن طريق ممارسة ذاتية تتمثل في التأمل الباطني، أي ما يصطلح عليه بالاستبطان Introspection. هذا الأخير حيث اتخذ كمنهجية عرف عنها أنها غير مؤكدة ولا توفر الدقة والضبط، كما أنها لا تحقق البرهان العلمي[4]. وهي الطريقة التي تقوم على استعمال إفادات الفرد ذاته عن "تجاربه المباشرة" و"أحوال الوعي" لديه كمادة للدراسة[5]. خلال هذه الفترة إذن، سيتم التخلي عن الاستبطان ورفضه من قبل الممارسة العلمية السيكولوجية بشكل عام.
لقد جرت العادة أن يتم تعريف علم النفس على أنه العلم الذي يدرس السلوك والعمليات العقلية، باعتبار أن الموضوعات التي يبحثها علماء النفس تشمل عدد كبير من خصائص السلوك أو العمليات العقلية[6]، ذلك أن علم النفس في صيغته العلمية يتخذ له كموضوع دراسة سلوك الإنسان، بمعنى ما تعكسه مجموع النشاطات الخارجية والداخلية التي تتم ملاحظتها بشكل مباشر أو غير مباشر، وكذلك ما يتعلق بالسيرورات العقلية والعاطفية والانفعالية القابلة لتفسير وإعطاء معنى لهذه السلوكات[7].
مما لا شك فيه أن القرن 20 شهد حركية جد مهمة في مجال الفكر والعلوم والمعارف كما هو الشأن في مجالات أخرى، إذ كان لذلك إسهام كبير في التقدم الذي عرفته مختلف مناحي الحياة المعاصرة. فمن الوقائع البارزة التي طبعت مجال الفكر والعلوم خلال أواخر هذا القرن هو ما يتمثل في قيام "الثورة المعرفية Révolution cognitive[8]، وهي ثورة أحدثت تحولا عميقا في التصورات والمفاهيم والمنظومة العلمية القائمة، وبالتالي رافقتها نقلة نوعية في العقلية العلمية.
لقد كان لعلم النفس النصيب الأوفر في انطلاق هذه الثورة المعرفية، وذلك بفعل تواجده في قلب المخاض العلمي منذ المؤشرات الأولى لبروز الطرح المعرفي إلى مرحلة الانطلاق وتسجيل الحضور في الحقول العلمي والفكرية بقوة الثورة. هذه الوضعية أعطت مكانة قوية لعلم النفس المعرفي Psychologie cognitive الطاف كمجال له كيان يميزه، حيث أصبح هذا الفرع العلمي داخل الإطار العام لعلم النفس من أكثر الفروع حضورا في الأبحاث والدراسات (يكفي الاطلاع على ما ينشر من كتابات علم النفس، وفي الدوريات والمجلات العلمية، وما يتم تداوله ومناقشته في الندوات والمؤتمرات ليتبين مدى الحضور البارز لعلم النفس المعرفي)، كما أنه يمثل المجال الأكثر خصوبة وحيوية[9]. وذلك بفعل الدينامية التي نشطت معه ولها استمرار متقدم، وكذا التوجه الجديد الذي انخرط فيه النظر إلى سيكولوجية الإنسان.
لقد كان من النتائج المباشرة لقيام الثورة المعرفية، أن علم النفس المعرفي قام وتشكل أساسا ضد السلوكية Béhaviorisme (التي تعتبر مدرسة فكرية واتجاه نظري لهما ما يميزهما في الماضي القريب والحاضر داخل الحقل العام لعلم النفس) التي يتمثل هدفها النظري في التنبؤ بالسلوك وضبطه[10]. ذلك أن السلوكية هذه، بعد الازدهار الذي عرفته خلال النصف الأول من القرن 20 صار يطبع أطروحاتها السيكولوجية نوع من المهرمة والعقم.
ما حصل مع هذا التحول والانتقال هو أن علم النفس عمل على إدخال دراسة الظواهر العقلية باعتبارها ظواهر غير مادية ضمن أولوياته، لكن مع إلزامية متطلبات المادية التي ما برحت تؤخذ بجدية. ومن أجل ذلك اقتضى الأمر تطوير منظور جديد للمادية، حتى لا يتم اختزال وصف الظواهر العقلية بصيغة عصبية، بمعنى وصفها وتحديها في شكلها المادي الفعلي ومن منظور مادي صرف ومتطرف[11]. مع ذلك، فهذه المسألة ستجد تعبيرها في مظهر جديد له مميزاته النوعية من خلال التنافس في الطرح والتفسير بين اتجاهين كبيرين، وهما الاتجاه المعرفي cognitivisme والاتجاه الترابطي connexionnisme[12]. وهو تنافس ستتقوى تفاعلاته داخل النسق العام للعلوم المعرفية، بينما في مجال علم النفس سيكون أقل وقعا، حيث سيؤثثه بكيفية أساسية منحى الاتجاه المعرفي.
إن هذه الثورة المعرفية إذن، سمحت باستئناف البحث والاشتغال في موضوعات وقضايا قديمة، مع تحول في طرح الإشكاليات والتناول المنهجي لها[13]. كما أن هذه العودة في الاهتمام سيؤسس لها علم النفس خلافا لما حصل قبل قرن من ذلك، حيث سيتحقق هذا الأمر في ظل حقل عام والمتمثل في العلوم المعرفية وبموازاة مع الاتجاه الذي سارت فيه مجالات معرفية وعلمية أخرى.
من الملاحظ أيضا في إطار هذه النهضة، أنه سجلت تعبيرات مثقلة بالمعاني والتي رافقت ظهور العلوم المعرفية والتحول الذي أحدثته في مختلف المجالات، منها تعبير "عصر المعرفية Ere de la cognition"[14]. و"عصر المعرفي أو عصر ما هو معرفي Ere du cognitif"[15]. وهي تعبيرات استعملت من طرف أصحابها وعدد من الكتابات وذلك للدلالة على الأهمية الكبيرة للشأن أو الشيء المعرفي في حقل العلم المعاصر.
العلوم المعرفية والمشروع المشترك.
العلم المعرفي هو بمثابة مفهوم جديد ضمن حقل الفكر عامة، من عدة نواح يحيل على التوالي على برنامج من الأفكار والمعارف، وعلى واقع حالي في المنظور والاشتغال العلميين[16]. تعبير "علم معرفي" لم ينبثق في الواقع إلا خلال فترة السبعينيات من القرن العشرين[17]. بعد هذه الفترة وإلى يومنا هذا سيعرف انتشاره إيقاعا مكثفا وسريعا، حيث سيحتل الصدارة في منظومة العلوم التي تمركز اهتمامها على المعرفة والمعلومات.
العلم المعرفي إذن، كما تم التأسيس له ورصد معالمه اليوم، يشكل إعلانا عن "فتوحات"[18]، بحيث يتبين أنه يعكس حركة فكرية وقطاع من البحث كواقع فعلي، بل أكثر من ذلك أنه أصبح حاليا أكثر حضورا ونشاطا ودينامية[19]، ذلك بالنظر إلى حجم التداول والإنتاج بصفة عامة. والحال أن نعت أو تعبير "معرفي" قد تم استعماله أول مرة من أجل الإشارة إلى مقاربة جديدة في علم النفس. وستتبعه بعد ذلك علوم أخرى، هذه التي ستشكل ما سيعرف بالعلوم المعرفية بصيغة الجمع[20]. فهذا المجموع أو جزء منه هو ما يشكل المصدر المتعدد الذي يغذي البحث المعرفي. على هذا الأساس، فإن الظهور حديثا لتعبير "العلوم المعرفية" sciences cognitives يعكس في واقع الأمر مظهرين لعملة واحدة[21]:
ـ من جهة، تشكيل تكتل يضم اختصاصات متعددة، والذي يضع في الحسبان مجموعة من المجالات الرئيسية، هي: الذكاء الاصطناعي، وعلم النفس المعرفي، واللسانيات، والعلوم العصبية، وفلسفة العقل.
ـ من جهة أخرى، إن هذه العلوم تتميز من حيث الكيفية التي تقترحها لتصور العقل. فالمشروع المشترك بالنسبة إليها يتمثل في: تفسير قدرات العقل الإنساني[22].
إذن فهذه المجالات اجتمعت حول غاية مشتركة، بحيث تحاول الإجابة على أسئلة تتعلق بطبيعة المعرفة ومكوناتها ونموها واكتسابها واستخداماتها المختلفة. والخريطة التالية تقربنا من هذا التكتل ومختلف العلائق التي تنتظم وفقها العلوم المعرفية، سواء على المستوى الداخلي بالنسبة لما يجمعها كمشروع مشترك، أو على المستوى الخارجي في اتجاه المعارف والعلوم التي تتقاسم وإياها اهتمامات ومهام معرفية بطبيعة الحال.
خريطة العلوم المعرفية(*)
بالنسبة إلى بدايات العلم المعرفي يظهر أنه كان يطبعها نوع من التواضع بعيدا عن الإثارة، وذلك في مرحلة كان يعمل على استكشاف بسيط للفوائد التي يمكن أن يأتي بها تحليل مزدوج لعمليات التفكير الإنساني مثل تلك التي يصفها علم النفس من جهة، والعمليات التي يقوم بإنجازها الحاسوب ordinateur من جهة ثانية[23]. بعبارة أخرى، إن هناك فوائد يمكن جنيها من تحليل مقارن للعمليات التي يقوم بها العقل الإنساني والعقل الإلكتروني. ثم إن العمل بهدوء تبعا لهذه الظروف، اقتضته شروط علمية وفكرية وإبستمولوجية كانت –ولا تزال إلى حد ما- سائدة. والحال أنه حتى تعابير "الثورة المعرفية" أو "عصر المعرفة" سيتم إطلاقها خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
بعد مرحلة البدايات سيسعى العلم المعرفي بجرأة الموقف والفعل العلميين إلى استكشاف المظاهر المختلفة التي تسمح بتنفيذ الوظائف المعرفية من خلال أنساق وأنظمة مادية، ويعمل على وصف السيرورات العقلية العاملة على مستوى الأنظمة الحية، وكذلك دراسة الآليات العصبية المنظمة والفاعلة على مستوى الدماغ التي تتدخل في المعرفة.
العلم المعرفي أو العلوم المعرفية، وهكذا جرت العادة بالحديث عن علوم معرفية تبعا لما هو معمول به في شكل العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية…إلخ[24]، تواجه عددا من الأسئلة ذات الأهمية الكبرى فيما يتعلق بالطبيعة الإنسانية من حيث العلاقة بين العقل والدماغ. إنها تتساءل مثلا حول أسس معارفنا الإدراكية، حول أصل الأفكار الرياضية والهندسية، حول تعبير الفكر في اللغة، حول التراث العقلي للفرد منذ ولادته[25]، حول اشتغال العقل. كما أنها علوم انشغلت بمسألة إعمال العقل أو "التعقل"[26]. بالإضافة إلى أنها أعادت النظر وجددت الطرح فيما يتعلق بالاستدلال والمنطق والتعلم والاستعدادات العقلية وأيضا المرض العقلي…إلخ[27]. على اعتبار أن العلوم المعرفية قد قطعت مع التقليد الفلسفي أو السيكولوجي السابق، بحيث إنها تتعرض لهذه الأسئلة بكيفية علمية وليس بكيفية نظرية محضة. على هذا الأساس اجتهد العلماء والباحثون في جمع الموضوعات التي "تعمر حقل ما هو عقلي"[28]، وذلك بكيفية مخالفة عما كان معتاد عليه في التقاليد العلمية. وقد نتج عن الاشتغال العلمي بهذه الظواهر والقضايا استبدال الطرق وأشكال الحديث عنها، وأيضا الاتجاه نحو البحث والقبول بأساليب أخرى لإبرازها وبيانها، وبالتالي تم خلق صورة مغايرة لأشكال المعرفة التي تتعلق بهذه الموضوعات وما تحيل عليه[29].
العلوم المعرفية إذن، مع بدايات تشكلها كحقل له مقامه ومقاله ستحدد بكونها علوم تهتم "بدراسة المبادئ التي تتفاعل من خلالها وحدات موهوبة بذكاء مع البيئة التي تتواجد فيها"[30].
ومن ثم فهي علوم يتمثل هدف البحث لديها في العمل على "اكتشاف قدرات العقل في التصور والحساب. وكذلك تمثلاتها البنيوية والوظيفية في الدماغ"[31]. في سبيل تحقيق هذا الهدف العام، لم تدخر العلوم المعرفية جهدا، حيث قامت لأجل ذلك بالتعرض لعدد من المهام يمكن أن نذكر من بينها أن هذه العلوم:
ـ تسعى إلى إضفاء أوصاف مجردة على قدرات عقلية معينة، يتم التعبير عنها بصيغ البنية والوظيفة والمضمون.
ـ تستكشف مختلف الطرق التي تسمح بتنفيذ الوظائف المعرفية من خلال أنظمة فيزيائية ومادية.
ـ تسعى إلى تمييز السيرورات العقلية التي تشتغل في الأنظمة الحية، خاصة الإنسان.
ـ تدرس الآليات العصبية التي تتدخل في المعرفة[32].
على المستوى العملي وبغرض إنجاز مهامها، فالعلوم المعرفية أوجدت لنفسها أدوات مفاهيمية وإجرائية تسمح بتقسيم مجموع الإشكاليات المتعلقة بالطبيعة الإنسانية وطرحها عبر أسئلة تتراوح بين البساطة والتعقيد ومعزولة بشكل أفضل في غالب الأحيان وقابلة لمعالجة علمية محددة[33]. فبفعل وثيرة الاشتغال ونوعية الاجتهاد في كل مجال على حدة من حيث التدقيق فيما تطرحه مختلف الأسئلة والإشكاليات، سيحصل تطور جد مهم يتعلق بفهم وتفسير نشاطات العقل.
علم النفس المعرفي، الاهتمام والمهام:
يعتبر علم النفس المعرفي ذلك المجال العلمي المتخصص في علم النفس والذي يدرس المعرفة cognition[34]. ولقد جاء علم النفس المعرفي خلال العقود الأخيرة ينطوي على موقف منهجي ونظري أكثر اعتدالا عن ذلك الموقف الذي كان يمثل نموذج الاشتغال العلمي الصارم لسنوات 50 و60[35]، وهو بالخصوص النموذج التجريبي الإمبريقي.
أما بالنسبة إلى بدايات تشكل المجال الجديد وقيام المشروع العلمي فيه، فإن الأمر يرتبط بحدث نشر العالم أولريك نيسر U.Neisser لمؤلفه علم النفس المعرفي Cognitive psychology سنة 1967[36] (الذي يعتبره البعض بمثابة حجر الزاوية في التاريخ الحديث لعلم النفس)[37]. إذ سيبرز علم النفس المعرفي بكونه توجه جديد لعلم النفس نحو دراسة النشاطات الداخلية للفرد، العقلية منها بالأساس، وذلك في تقابل مع النشاطات الخارجية الخاضعة للملاحظة المباشرة، وهي النشاطات التي شكلت كلاسيكيا معنى للسلوك[38].
من هذا المنطلق إذن، سيتجه النظر إلى الدور الإيجابي النشط والفعال للفرد في تفاعله وتعاطيه مع المثيرات الداخلية والخارجية، والتي يتم التعبير عنها بالمعلومات. إنه نشاط يقوم به الفرد من خلال عمليات التجهيز والتدبير والمعالجة لهذه المعلومات، على اعتبار أن الفرد بخصوص هذه العمليات هو بمثابة أداة ذاتية النشاط والفعالية[39]. لما لهذه العمليات من أهمية في حياة الإنسان بشكل عام.
في هذا السياق، فإن منظور علم النفس المعرفي يقوم على افتراض أساس مفاده أن السلوك هو نتاج لكم المعرفة ونوعها وتنظيم هذه المعرفة تنظيما ذاتيا أو موضوعيا ونظام سيرورة المعلومات لدى الفرد واستراتيجياته المعرفية والتي تحمل أهم خصائص التناول المعرفي[40].
تبعا لهذا الافتراض يكون الفرد هو عبارة عن نسق من معالجة المعلومات الذي يحول المعلومات ذات طبيعة مادية إلى معلومات ذات طبيعة ذهنية أو تصورية[41]. ومن ثم فالسلوك تكون له إذن، أسباب عقلية، أي أنه بالنسبة إلى المنظور المعرفي هناك سببية مباشرة بين الحالة الذهنية والسلوك، وهذه السببية هي التي يتعلق الأمر بدراستها[42] وإعطائها الاهتمام المناسب.
الفكرة المحورية بالنسبة إلى هذا المنظور[43]، تفيد بأن الإنسان يمتلك خاصية فريدة حيث تسمح له بفحص المضامين والدلالات الذهنية بكيفية استبطانية[44]. فالإنسان تبعا لذلك يساهم في تفسير التصرفات والسلوكات من منطلق دينامية ذاتية داخلية.
بالنسبة إلى الموقف العلمي إذن، فإنه من الممكن تفسير سلوكات الفرد وفق طريقتين: سواء بإثارة الحالات الذهنية أو بإبراز تأثير تعزيزات وإشراطات المحيط الخارجي. هاتين الطريقتين من الواضح أنها شكلت القاعدة التي انبنت عليها مقاربتين ستسودان في دراسة سيكولوجية الأفراد: سيكولوجية تعتمد التفسير من الداخل وسيكولوجية تعتمد التفسير من الخارج[45]. إنها بمثابة ثنائية التصقت بمجال علم النفس عبر مختلف المحطات التاريخية، حيث طبعت هذا المجال بنوع من المد والجزر.
قضايا النشأة والمفهوم
عبد الكريم بلحاج
تمهيد:
يعد علم النفس بمثابة خطاب ومعرفة وممارسة له ما يميزه داخل حقل العلوم والمعارف من جهة، وداخل المجتمع والوجود الاجتماعي من جهة ثانية. فهو يتميز أيضا وأساسا باستقلالية علمية في موضوعه وفي مناهجه، وبالتالي كونه من حقول المعرفة الحديثة، فمنذ نشأته الفعلية خلال القرن 19 عرف عدة تطورات في طروحاته واشتغاله.
في هذا السياق يتحدد اعتبار علم النفس هو ذلك العلم من بين مختلف العلوم ومجالات الفكر، الذي يهتم بشكل أساسي بالإنسان (هذا من دون أن يتخلى عن دراسة الحيوان). فاهتمامه بالكائن الإنساني كأولية من حيث الموضوع يتجلى في رصد مختلف السيرورات النفسية والعقلية التي تنتظم وفقها حياته، وكذلك بالنسبة إلى ما يتعلق بتوافقه مع البيئة بصفة عامة. ثم أيضا، وبخاصة، أن علم النفس له اهتمامات نوعية منها ما يتعلق بدراسة وتحليل شخصية الإنسان، ومنها ما يختص بدراسة وفهم العقل. بطبيعة الحال فأنواع الدراسة هذه أدت تقليديا إلى تباين في الاختصاصات ومجالات الاشتغال، حيث إن تحليل شخصية الإنسان مثلا شكل مجال اهتمام التحليل النفسي وعلم النفس العيادي، بينما دراسة العقل على أساس الآليات والوظائف والسيرورات، فقد شكل اهتمام مجال علم النفس التجريبي وعلم النفس الفيزيولوجي، وحديثا أصبح الموضوع الرئيسي لعلم النفس المعرفي. إنه المظهر العام الذي طبع تقليديا علم النفس.
أما خلال النصف الأخير من القرن 20، فقد أصبحت السيكولوجيا العلمية مطالبة باتخاذ حلة جديدة وأصيلة، وهي تلك التي ستتمثل في صفة سيكولوجيا متميزة بتميز موضوعها: المعرفة cognition. من ثم فالسيكولوجيا العلمية ستصير بمعنى من المعاني مرادفة لعلم النفس المعرفي.
هذه المرحلة الجديدة سيطبعها أيضا التعاطي المنفتح مع قضايا وإشكاليات أتت من خارج المجال الخاص بعلم النفس، من: اللسانيات والمنطق والمعلوميات. باعتبار أن هذه المجالات ستساهم إلى جانب علم النفس في إعادة صياغة الموضوع والمهام، وستنخرط في شراكة وبدينامية في اتجاه مغامرة علمية جديدة.
أيضا خلال هذه المرحلة أخذت مفاهيم "رحال" مكان لها في معجم علم النفس[1]، كما أن بعض المفاهيم التقليدية سيعاد بعثها من جديد. إن علم النفس شهد تحولا عميقا سواء في صيغته كعلم أو في موضوعه ومناهجه، أو كذلك في مهامه وروابطه مع باقي المعارف والعلوم الأخرى. وهو التحول الذي سيؤثر بقوة في مسار علم النفس في الوقت الحاضر.
في النهضة المعرفية:
تاريخ علم النفس كفرع علمي مستقل له كيانه الخاص هو تاريخ يقوم على التطورات النظرية والمنهجية والمؤسساتية التي طبعت هذا الفرع، وكانت لها تداعيات متعددة، إن على المستوى العلمي والعملي أو على المستوى الفكري عامة. كما أن هذا التاريخ يقوم أيضا على إعداد وتشكيل مفهوم علم النفس ذاته[2]، والفترة الممتدة من أواخر القرن 19 إلى اليوم تبقى حبلى بالدروس فيما يتعلق بهوية ومحددات العلم. ينضاف إلى هذا، مسألة تمثيلية مكان علم النفس بين المجالات العلمية والفكرية القائمة والتي بدورها عرفت دينامية كان البعد الإبستمولوجي فيها مؤطرا وموجها لها. وهي دينامية تجاذبتها مواقف الرفض والقبول من جهة، ومواقف الوحدة والتعدد من جهة أخرى.
من البديهي إذن، التذكير بأنه خلال الفترة التاريخية المتراوحة بين أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 علم النفس أسس لوضعه كمجال علمي تجريبي[3]، وذلك بتحديده لموضوع الدراسة ومنهج الاشتغال، ومن ثم الانخراط ضمن النسق المنظم لحقل العلوم والمعارف. وهو الأمر الذي أدى بعلم النفس إلى إقصائه للحالات الذهنية états mentaux من مجال اشتغاله واهتماماته. على اعتبار أن الحالات الذهنية هذه لم تكن في المتناول سوى عن طريق ممارسة ذاتية تتمثل في التأمل الباطني، أي ما يصطلح عليه بالاستبطان Introspection. هذا الأخير حيث اتخذ كمنهجية عرف عنها أنها غير مؤكدة ولا توفر الدقة والضبط، كما أنها لا تحقق البرهان العلمي[4]. وهي الطريقة التي تقوم على استعمال إفادات الفرد ذاته عن "تجاربه المباشرة" و"أحوال الوعي" لديه كمادة للدراسة[5]. خلال هذه الفترة إذن، سيتم التخلي عن الاستبطان ورفضه من قبل الممارسة العلمية السيكولوجية بشكل عام.
لقد جرت العادة أن يتم تعريف علم النفس على أنه العلم الذي يدرس السلوك والعمليات العقلية، باعتبار أن الموضوعات التي يبحثها علماء النفس تشمل عدد كبير من خصائص السلوك أو العمليات العقلية[6]، ذلك أن علم النفس في صيغته العلمية يتخذ له كموضوع دراسة سلوك الإنسان، بمعنى ما تعكسه مجموع النشاطات الخارجية والداخلية التي تتم ملاحظتها بشكل مباشر أو غير مباشر، وكذلك ما يتعلق بالسيرورات العقلية والعاطفية والانفعالية القابلة لتفسير وإعطاء معنى لهذه السلوكات[7].
مما لا شك فيه أن القرن 20 شهد حركية جد مهمة في مجال الفكر والعلوم والمعارف كما هو الشأن في مجالات أخرى، إذ كان لذلك إسهام كبير في التقدم الذي عرفته مختلف مناحي الحياة المعاصرة. فمن الوقائع البارزة التي طبعت مجال الفكر والعلوم خلال أواخر هذا القرن هو ما يتمثل في قيام "الثورة المعرفية Révolution cognitive[8]، وهي ثورة أحدثت تحولا عميقا في التصورات والمفاهيم والمنظومة العلمية القائمة، وبالتالي رافقتها نقلة نوعية في العقلية العلمية.
لقد كان لعلم النفس النصيب الأوفر في انطلاق هذه الثورة المعرفية، وذلك بفعل تواجده في قلب المخاض العلمي منذ المؤشرات الأولى لبروز الطرح المعرفي إلى مرحلة الانطلاق وتسجيل الحضور في الحقول العلمي والفكرية بقوة الثورة. هذه الوضعية أعطت مكانة قوية لعلم النفس المعرفي Psychologie cognitive الطاف كمجال له كيان يميزه، حيث أصبح هذا الفرع العلمي داخل الإطار العام لعلم النفس من أكثر الفروع حضورا في الأبحاث والدراسات (يكفي الاطلاع على ما ينشر من كتابات علم النفس، وفي الدوريات والمجلات العلمية، وما يتم تداوله ومناقشته في الندوات والمؤتمرات ليتبين مدى الحضور البارز لعلم النفس المعرفي)، كما أنه يمثل المجال الأكثر خصوبة وحيوية[9]. وذلك بفعل الدينامية التي نشطت معه ولها استمرار متقدم، وكذا التوجه الجديد الذي انخرط فيه النظر إلى سيكولوجية الإنسان.
لقد كان من النتائج المباشرة لقيام الثورة المعرفية، أن علم النفس المعرفي قام وتشكل أساسا ضد السلوكية Béhaviorisme (التي تعتبر مدرسة فكرية واتجاه نظري لهما ما يميزهما في الماضي القريب والحاضر داخل الحقل العام لعلم النفس) التي يتمثل هدفها النظري في التنبؤ بالسلوك وضبطه[10]. ذلك أن السلوكية هذه، بعد الازدهار الذي عرفته خلال النصف الأول من القرن 20 صار يطبع أطروحاتها السيكولوجية نوع من المهرمة والعقم.
ما حصل مع هذا التحول والانتقال هو أن علم النفس عمل على إدخال دراسة الظواهر العقلية باعتبارها ظواهر غير مادية ضمن أولوياته، لكن مع إلزامية متطلبات المادية التي ما برحت تؤخذ بجدية. ومن أجل ذلك اقتضى الأمر تطوير منظور جديد للمادية، حتى لا يتم اختزال وصف الظواهر العقلية بصيغة عصبية، بمعنى وصفها وتحديها في شكلها المادي الفعلي ومن منظور مادي صرف ومتطرف[11]. مع ذلك، فهذه المسألة ستجد تعبيرها في مظهر جديد له مميزاته النوعية من خلال التنافس في الطرح والتفسير بين اتجاهين كبيرين، وهما الاتجاه المعرفي cognitivisme والاتجاه الترابطي connexionnisme[12]. وهو تنافس ستتقوى تفاعلاته داخل النسق العام للعلوم المعرفية، بينما في مجال علم النفس سيكون أقل وقعا، حيث سيؤثثه بكيفية أساسية منحى الاتجاه المعرفي.
إن هذه الثورة المعرفية إذن، سمحت باستئناف البحث والاشتغال في موضوعات وقضايا قديمة، مع تحول في طرح الإشكاليات والتناول المنهجي لها[13]. كما أن هذه العودة في الاهتمام سيؤسس لها علم النفس خلافا لما حصل قبل قرن من ذلك، حيث سيتحقق هذا الأمر في ظل حقل عام والمتمثل في العلوم المعرفية وبموازاة مع الاتجاه الذي سارت فيه مجالات معرفية وعلمية أخرى.
من الملاحظ أيضا في إطار هذه النهضة، أنه سجلت تعبيرات مثقلة بالمعاني والتي رافقت ظهور العلوم المعرفية والتحول الذي أحدثته في مختلف المجالات، منها تعبير "عصر المعرفية Ere de la cognition"[14]. و"عصر المعرفي أو عصر ما هو معرفي Ere du cognitif"[15]. وهي تعبيرات استعملت من طرف أصحابها وعدد من الكتابات وذلك للدلالة على الأهمية الكبيرة للشأن أو الشيء المعرفي في حقل العلم المعاصر.
العلوم المعرفية والمشروع المشترك.
العلم المعرفي هو بمثابة مفهوم جديد ضمن حقل الفكر عامة، من عدة نواح يحيل على التوالي على برنامج من الأفكار والمعارف، وعلى واقع حالي في المنظور والاشتغال العلميين[16]. تعبير "علم معرفي" لم ينبثق في الواقع إلا خلال فترة السبعينيات من القرن العشرين[17]. بعد هذه الفترة وإلى يومنا هذا سيعرف انتشاره إيقاعا مكثفا وسريعا، حيث سيحتل الصدارة في منظومة العلوم التي تمركز اهتمامها على المعرفة والمعلومات.
العلم المعرفي إذن، كما تم التأسيس له ورصد معالمه اليوم، يشكل إعلانا عن "فتوحات"[18]، بحيث يتبين أنه يعكس حركة فكرية وقطاع من البحث كواقع فعلي، بل أكثر من ذلك أنه أصبح حاليا أكثر حضورا ونشاطا ودينامية[19]، ذلك بالنظر إلى حجم التداول والإنتاج بصفة عامة. والحال أن نعت أو تعبير "معرفي" قد تم استعماله أول مرة من أجل الإشارة إلى مقاربة جديدة في علم النفس. وستتبعه بعد ذلك علوم أخرى، هذه التي ستشكل ما سيعرف بالعلوم المعرفية بصيغة الجمع[20]. فهذا المجموع أو جزء منه هو ما يشكل المصدر المتعدد الذي يغذي البحث المعرفي. على هذا الأساس، فإن الظهور حديثا لتعبير "العلوم المعرفية" sciences cognitives يعكس في واقع الأمر مظهرين لعملة واحدة[21]:
ـ من جهة، تشكيل تكتل يضم اختصاصات متعددة، والذي يضع في الحسبان مجموعة من المجالات الرئيسية، هي: الذكاء الاصطناعي، وعلم النفس المعرفي، واللسانيات، والعلوم العصبية، وفلسفة العقل.
ـ من جهة أخرى، إن هذه العلوم تتميز من حيث الكيفية التي تقترحها لتصور العقل. فالمشروع المشترك بالنسبة إليها يتمثل في: تفسير قدرات العقل الإنساني[22].
إذن فهذه المجالات اجتمعت حول غاية مشتركة، بحيث تحاول الإجابة على أسئلة تتعلق بطبيعة المعرفة ومكوناتها ونموها واكتسابها واستخداماتها المختلفة. والخريطة التالية تقربنا من هذا التكتل ومختلف العلائق التي تنتظم وفقها العلوم المعرفية، سواء على المستوى الداخلي بالنسبة لما يجمعها كمشروع مشترك، أو على المستوى الخارجي في اتجاه المعارف والعلوم التي تتقاسم وإياها اهتمامات ومهام معرفية بطبيعة الحال.
خريطة العلوم المعرفية(*)
بالنسبة إلى بدايات العلم المعرفي يظهر أنه كان يطبعها نوع من التواضع بعيدا عن الإثارة، وذلك في مرحلة كان يعمل على استكشاف بسيط للفوائد التي يمكن أن يأتي بها تحليل مزدوج لعمليات التفكير الإنساني مثل تلك التي يصفها علم النفس من جهة، والعمليات التي يقوم بإنجازها الحاسوب ordinateur من جهة ثانية[23]. بعبارة أخرى، إن هناك فوائد يمكن جنيها من تحليل مقارن للعمليات التي يقوم بها العقل الإنساني والعقل الإلكتروني. ثم إن العمل بهدوء تبعا لهذه الظروف، اقتضته شروط علمية وفكرية وإبستمولوجية كانت –ولا تزال إلى حد ما- سائدة. والحال أنه حتى تعابير "الثورة المعرفية" أو "عصر المعرفة" سيتم إطلاقها خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
بعد مرحلة البدايات سيسعى العلم المعرفي بجرأة الموقف والفعل العلميين إلى استكشاف المظاهر المختلفة التي تسمح بتنفيذ الوظائف المعرفية من خلال أنساق وأنظمة مادية، ويعمل على وصف السيرورات العقلية العاملة على مستوى الأنظمة الحية، وكذلك دراسة الآليات العصبية المنظمة والفاعلة على مستوى الدماغ التي تتدخل في المعرفة.
العلم المعرفي أو العلوم المعرفية، وهكذا جرت العادة بالحديث عن علوم معرفية تبعا لما هو معمول به في شكل العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية…إلخ[24]، تواجه عددا من الأسئلة ذات الأهمية الكبرى فيما يتعلق بالطبيعة الإنسانية من حيث العلاقة بين العقل والدماغ. إنها تتساءل مثلا حول أسس معارفنا الإدراكية، حول أصل الأفكار الرياضية والهندسية، حول تعبير الفكر في اللغة، حول التراث العقلي للفرد منذ ولادته[25]، حول اشتغال العقل. كما أنها علوم انشغلت بمسألة إعمال العقل أو "التعقل"[26]. بالإضافة إلى أنها أعادت النظر وجددت الطرح فيما يتعلق بالاستدلال والمنطق والتعلم والاستعدادات العقلية وأيضا المرض العقلي…إلخ[27]. على اعتبار أن العلوم المعرفية قد قطعت مع التقليد الفلسفي أو السيكولوجي السابق، بحيث إنها تتعرض لهذه الأسئلة بكيفية علمية وليس بكيفية نظرية محضة. على هذا الأساس اجتهد العلماء والباحثون في جمع الموضوعات التي "تعمر حقل ما هو عقلي"[28]، وذلك بكيفية مخالفة عما كان معتاد عليه في التقاليد العلمية. وقد نتج عن الاشتغال العلمي بهذه الظواهر والقضايا استبدال الطرق وأشكال الحديث عنها، وأيضا الاتجاه نحو البحث والقبول بأساليب أخرى لإبرازها وبيانها، وبالتالي تم خلق صورة مغايرة لأشكال المعرفة التي تتعلق بهذه الموضوعات وما تحيل عليه[29].
العلوم المعرفية إذن، مع بدايات تشكلها كحقل له مقامه ومقاله ستحدد بكونها علوم تهتم "بدراسة المبادئ التي تتفاعل من خلالها وحدات موهوبة بذكاء مع البيئة التي تتواجد فيها"[30].
ومن ثم فهي علوم يتمثل هدف البحث لديها في العمل على "اكتشاف قدرات العقل في التصور والحساب. وكذلك تمثلاتها البنيوية والوظيفية في الدماغ"[31]. في سبيل تحقيق هذا الهدف العام، لم تدخر العلوم المعرفية جهدا، حيث قامت لأجل ذلك بالتعرض لعدد من المهام يمكن أن نذكر من بينها أن هذه العلوم:
ـ تسعى إلى إضفاء أوصاف مجردة على قدرات عقلية معينة، يتم التعبير عنها بصيغ البنية والوظيفة والمضمون.
ـ تستكشف مختلف الطرق التي تسمح بتنفيذ الوظائف المعرفية من خلال أنظمة فيزيائية ومادية.
ـ تسعى إلى تمييز السيرورات العقلية التي تشتغل في الأنظمة الحية، خاصة الإنسان.
ـ تدرس الآليات العصبية التي تتدخل في المعرفة[32].
على المستوى العملي وبغرض إنجاز مهامها، فالعلوم المعرفية أوجدت لنفسها أدوات مفاهيمية وإجرائية تسمح بتقسيم مجموع الإشكاليات المتعلقة بالطبيعة الإنسانية وطرحها عبر أسئلة تتراوح بين البساطة والتعقيد ومعزولة بشكل أفضل في غالب الأحيان وقابلة لمعالجة علمية محددة[33]. فبفعل وثيرة الاشتغال ونوعية الاجتهاد في كل مجال على حدة من حيث التدقيق فيما تطرحه مختلف الأسئلة والإشكاليات، سيحصل تطور جد مهم يتعلق بفهم وتفسير نشاطات العقل.
علم النفس المعرفي، الاهتمام والمهام:
يعتبر علم النفس المعرفي ذلك المجال العلمي المتخصص في علم النفس والذي يدرس المعرفة cognition[34]. ولقد جاء علم النفس المعرفي خلال العقود الأخيرة ينطوي على موقف منهجي ونظري أكثر اعتدالا عن ذلك الموقف الذي كان يمثل نموذج الاشتغال العلمي الصارم لسنوات 50 و60[35]، وهو بالخصوص النموذج التجريبي الإمبريقي.
أما بالنسبة إلى بدايات تشكل المجال الجديد وقيام المشروع العلمي فيه، فإن الأمر يرتبط بحدث نشر العالم أولريك نيسر U.Neisser لمؤلفه علم النفس المعرفي Cognitive psychology سنة 1967[36] (الذي يعتبره البعض بمثابة حجر الزاوية في التاريخ الحديث لعلم النفس)[37]. إذ سيبرز علم النفس المعرفي بكونه توجه جديد لعلم النفس نحو دراسة النشاطات الداخلية للفرد، العقلية منها بالأساس، وذلك في تقابل مع النشاطات الخارجية الخاضعة للملاحظة المباشرة، وهي النشاطات التي شكلت كلاسيكيا معنى للسلوك[38].
من هذا المنطلق إذن، سيتجه النظر إلى الدور الإيجابي النشط والفعال للفرد في تفاعله وتعاطيه مع المثيرات الداخلية والخارجية، والتي يتم التعبير عنها بالمعلومات. إنه نشاط يقوم به الفرد من خلال عمليات التجهيز والتدبير والمعالجة لهذه المعلومات، على اعتبار أن الفرد بخصوص هذه العمليات هو بمثابة أداة ذاتية النشاط والفعالية[39]. لما لهذه العمليات من أهمية في حياة الإنسان بشكل عام.
في هذا السياق، فإن منظور علم النفس المعرفي يقوم على افتراض أساس مفاده أن السلوك هو نتاج لكم المعرفة ونوعها وتنظيم هذه المعرفة تنظيما ذاتيا أو موضوعيا ونظام سيرورة المعلومات لدى الفرد واستراتيجياته المعرفية والتي تحمل أهم خصائص التناول المعرفي[40].
تبعا لهذا الافتراض يكون الفرد هو عبارة عن نسق من معالجة المعلومات الذي يحول المعلومات ذات طبيعة مادية إلى معلومات ذات طبيعة ذهنية أو تصورية[41]. ومن ثم فالسلوك تكون له إذن، أسباب عقلية، أي أنه بالنسبة إلى المنظور المعرفي هناك سببية مباشرة بين الحالة الذهنية والسلوك، وهذه السببية هي التي يتعلق الأمر بدراستها[42] وإعطائها الاهتمام المناسب.
الفكرة المحورية بالنسبة إلى هذا المنظور[43]، تفيد بأن الإنسان يمتلك خاصية فريدة حيث تسمح له بفحص المضامين والدلالات الذهنية بكيفية استبطانية[44]. فالإنسان تبعا لذلك يساهم في تفسير التصرفات والسلوكات من منطلق دينامية ذاتية داخلية.
بالنسبة إلى الموقف العلمي إذن، فإنه من الممكن تفسير سلوكات الفرد وفق طريقتين: سواء بإثارة الحالات الذهنية أو بإبراز تأثير تعزيزات وإشراطات المحيط الخارجي. هاتين الطريقتين من الواضح أنها شكلت القاعدة التي انبنت عليها مقاربتين ستسودان في دراسة سيكولوجية الأفراد: سيكولوجية تعتمد التفسير من الداخل وسيكولوجية تعتمد التفسير من الخارج[45]. إنها بمثابة ثنائية التصقت بمجال علم النفس عبر مختلف المحطات التاريخية، حيث طبعت هذا المجال بنوع من المد والجزر.
تتمة
علم النفس المعرفي كما يظهر من خلال التوجه الذي أراده له مؤسسوه والداعين إلى إقراره وأيضا من خلال شروط تاريخية للنظر والممارسة العلمية، نشأ كرد فعل على علم النفس الذي كان تحت هيمنة السلوكية Béhaviorisme، وعلى الخصوص فيما يطرحه ويدعو إليه منظور هذه الأخيرة عند تحليل السلوك وتفسيره بأن هناك حدودا لا يمكن تجاوزها. على أساس أن علم النفس بحسب هذا الاتجاه تنحصر مهمته في كونه لا يجب أن يهتم بدراسة الشعور أو الوعي، ولكن الاهتمام بدراسة السلوك ذاته الصادر عن الأفراد والذي يمكن ملاحظته وقياسه باستخدام الطرق الموضوعية، كما أن منظورها من حيث التقليد العلمي الذي أرسته يرتكز على دراسة السلوك comportement في ضوء مجموعة المثيرات والاستجابات التي ترتبط بالمواقف السلوكية للفرد، وليس النظر إلى علم النفس على أنه علم دراسة للصور والأفكار التي تدور في عقل الفرد. إن السلوكية وفق هذا المسعى إذن، تهتم بالأحداث والوقائع الملاحظة، أي ما يقوم به الإنسان أو يفعله خلال تفاعله المستمر مع البيئة. ومن هذا المنطلق فإن السلوك يمكن تناوله علميا من خلال معادلة المثير والاستجابة.
لقد كان العلماء والباحثون الذين ليسوا على اتفاق مع السلوكية أو أولئك الذين خيبتهم هذه الأخيرة، يتحدثون قليلا وبحذر (أو لا يتحدثون مطلقا) عن العقل والعمليات المعرفية أو الأنشطة العقلية المشابهة[46]، وذلك لأن السلوكية حرمت التفكير في تلك الموضوعات، كما عملت على محاربة وإقصاء أي شكل من أشكال الاهتمام بتلك الموضوعات والقضايا. إذ عالج السلوكيون الناس وكأنهم عبارة عن "صناديق سوداء" يمكن فهمها ببساطة فقط من خلال معالجة وقياس المثيرات الداخلة فيها والاستجابات الخارجة منها.
أما تمرد علماء النفس الذين سيؤسسون لما سيعرف بعلم النفس المعرفي على النموذج السلوكي، فهو للتأكيد على أن علماء النفس يجب أن يصلوا إلى فهم ما يجري داخل "الصندوق الأسود"، وبصفة خاصة العمليات العقلية[47].
لقد أتى علم النفس المعرفي إذن، للتأكيد على أهمية الظواهر والوقائع التي تحصل بين المثير والاستجابة، أي تلك العمليات والسيرورات العقلية التي تكون فاعلة على مستوى الصلة بين المثير والاستجابة، حيث يكون لها دور مهم إن لم يكن جوهري في الدلالة على فعل ونشاط الإنسان. وبذلك يتطلب الأمر الأخذ بالاعتبار عدد من المتغيرات والعوامل الوسيطة التي تسمح بتحويل معادلة المثير والاستجابة من طابعها الميكانيكي والتقليدي إلى معادلة حيوية ونشطة تتمثل في المعالجة Traitement. في هذا السياق أيضا سيأتي اعتماد مفهوم المعلومة[48] ليأخذ مكان مفهوم المثير الذي لم يعد يفي بالغرض، إذ صار مفهوم المعلومة بمثابة مفهوم أساسي في علم النفس المعرفي. أما النشاط العقلي لدى الإنسان، وهذا هو المقصد بالنسبة إلى المنظور الجديد، فإنه يعمل على تدبير ومعالجة هذه المعلومة لتحويلها إلى أشكال ومظاهر سلوكية[49] يتحقق من خلالها التفاعل والتوافق مع البيئة.
هكذا يتبين أن تعارض علم النفس السلوكي، أي علم النفس ذي الاتجاه السلوكي وكل مقاربة سيكولوجية تتناول العمليات العقلية هو أساسا تعارض بين المفاهيم المتعلقة بالسلوك وتلك التي تفيد ما هو عقلي معرفي[50].
لا شك أنه من أجل فهم طبيعة التجديد العلمي الذي حصل مع علم النفس المعرفي، لا بد من "وضعه في سياق دينامية البناء المفهومية المسترسلة، وعند ذلك لا يمكن الحديث عن اكتشاف علمي كحدث منعزل يتم في لحظة محددة بتدقيق وفي استقلال عن ذلك السياق"[51]. على هذا الأساس فإن قيام علم النفس المعرفي لم يحدث دفعة واحدة أو بكيفية منعزلة، حيث إن هناك مجموعة من الشروط التاريخية والفكرية التي كانت بمثابة عوامل مهيئة مؤطرة لما سيؤول عليه الأمر حاليا. بطبيعة الحال مع الأخذ بالاعتبار تلك الشروط العامة التي صاحبت قيام العلوم المعرفية.
وهكذا فإنه يمكن قراءة بروز هذا المجال السيكولوجي ضمن سياق تاريخي يتوزع على أربعة مراحل[52]، وهو سياق طبع التطور من علم النفس العام إلى علم النفس المعرفي، كما أنه يعكس جدلية نوعية في مسار علم النفس بشكل عام.
ـ المرحلة الأولى: تقترن باستقلال وانطلاق السيكولوجيا العلمية، وتميزت من خلال ما كان متاحا من دراسات تتعلق بالملكات والقدرات العقلية، كما أن الاهتمام اتجه إلى دراسة الإدراك الحسي مع اعتماد المنهج الموضوعي والإبقاء أيضا على منهج الاستبطان، إنها مرحلة نشطت خلالها حركة القياس العقلي ومحورها الأساسي الذكاء.
ـ المرحلة الثانية: تميزت باكتساح الاتجاه السلوكي لمجال علم النفس، وقد تمحورت الدراسات فيها حول التعلم والكشف عن العمليات التي تتحكم في اكتساب وصيرورة السلوك، مثل الإشراط والتعزيز باعتبارها عمليات تلعب دورا أساسيا في تحقيق توافق الفرد. هذه المرحلة شهدت أيضا قيام مدرسة الجشطلت Gestalt التي عارضت بشدة أطروحات السلوكية وانتصبت كمنافس قوي سواء على مستوى المنظور أو المقاربة، حيث أبرزت الطابع الكلي في تفسير السلوك على حساب الطابع التجزيئي. الجشطلت سعت إلى جعل الإدراك بمثابة الموضوع المركزي بالنسبة إلى علم النفس. كما ألحت هذه المدرسة على النظر إلى كل من الشعور والحياة العقلية من أجل فهم سيكولوجية الإنسان.
ـ المرحلة الثالثة: ستشكل منعطفا مهما في تطور علم النفس، حيث ستطبعها نشأة الاتجاه المعرفي. وهو اتجاه قام على معارضة ومواجهة أطروحات السلوكية بكيفية رئيسية، وقد انبنى في البداية من روافد متعددة تتجلى في تيارات ثلاثة[53]:
1-تيار ركز على البنيات العقلية: ومن مكوناته نظريات الجشطلت وبياجي وتشومسكي. فبالنسبة إلى الجشطلت أنها أولت أهمية بالغة للعمليات العقلية في النشاط الذهني، وجعلت النظر إلى الحياة العقلية باعتبارها أنساقا وأنظمة. فيما يتعلق بأعمال بياجي، كانت تندرج تحت تسمية "علم النفس المعرفي"، وهي الأعمال التي أنتجت نظرية قوية ومتكاملة حول النمو العقلي والمعرفي. أما تشومسكي فإنجازه في مجال اللسانيات التوليدية والتحويلية سيفيد قطاعات مهما في النشاط العقلي والذي هو قطاع اللغة.
2-تيار يعتبر أن النشاط العقلي هو نشاط يتمثل في معالجة المعلومات، وأن المعرفة تتحدد من خلال هذه المعالجة. وهذا الطرح نشأ على شاكلة تقابل بين العمليات التي يقوم بها الحاسوب من جهة والإنسان من جهة ثانية، أي بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني وذلك من حيث القدرة على معالجة المعلومات. ثم إن هذا التيار سيطبع بقوة مجال علم النفس المعرفي المعاصر.
3-تيار أخير ركز على دراسة الطريقة التي يعالج ويدبر بها الإنسان مختلف المعلومات وذلك من وجهة تجريبية، أي من خلال تجارب مختبرية وأبحاث أساسية دقيقة. فالاهتمام هنا اتجه إلى عمليات الانتباه من حيث الإمكانات والطاقة والمحدودية التي تتوفر عليها الذاكرة في اشتغالها.
لقد لعبت هذه التيارات دورا مهما في قيام الاتجاه المعرفي، وأسست الرصيد الفكري والعلمي لما سيكون عليه هذا الاتجاه[54]، بل أيضا الأرضية والأساس لما ستتشكل منه إلى حد ما العلوم المعرفية لاحقا.
ـ المرحلة الرابعة: تعتبر مرحلة متقدمة فيما يخص الاتجاه المعرفي، وستنشط خلالها العلوم المعرفية بفعالية كبيرة، الأمر الذي سيعزز من مركز علم النفس المعرفي. ستتعمق دراسة معالجة المعلومات سواء الرمزية أو غيرها، وذلك بتناولها على مستوى التمثلات المعرفية ومن خلال عمليات الفهم والاستدلال والتأويل. تميزت هذه المرحلة إذن، بدراسة وتحليل أشكال الاشتغال المعرفي للعقل الإنساني. إلى جانب إعطاء أهمية للاستبطان كطريقة تفيد في الكشف عن عدد من الوقائع التي لها حضور معين في هذا الاشتغال. وبذلك تسجل عودة إلى اهتمامات مؤسسي علم النفس خلال أواخر القرن 19، خاصة فيما يتعلق بالنشاط الذهني[55].
يتبين من خلال هذه النبذة حول المراحل التي طبعت السياق التاريخي لنشأة وتطور علم النفس المعرفي، بعض العوامل المؤثرة، والتي ستشكل منعطفا هاما بالنسبة إلى مجموع حقل علم النفس، وبخاصة فيما يتعلق بمجال الممارسة العلمية والاشتغال النظري[56]، لدرجة سيحل معها إقرار مفاده أن علم النفس من دون علم النفس المعرفي أصبح شيئا لا يمكن تصوره في الوقت الحالي[57].
يرتكز الاهتمام في علم النفس المعرفي، كما تتم صياغته في الفترة الراهنة وحسب مشروعه العلمي، على السعي نحو فهم وتبيان النشاطات العقلية التي يقوم بها فرد معين باعتباره بمثابة فاعل acteur (وليس مجرد مستجيب) وذلك من أجل تحقيق توافقه مع المواقف والظروف التي يواجهها[58]. وهذه النشاطات وما تعكسه من عمليات تتراوح من البسيط إلى المعقد، وبالتالي فالمسألة تمتد بالنسبة إلى الاشتغال العلمي إلى طرح نماذج والبرمجة لتعلم الفرد وإكسابه مهارات كاستثمار للنشاطات العقلية المختلفة. ومن ثمة فما هو سيكولوجي وذهني هو نوع السلوكات المدروسة. إنها تلك التي تسمح بالمعارف[59]، أو بتجسيد وتشكيل وتصريف هذه المعارف.
إن مواقف المراجعة وإعادة النظر الأساسية التي أدت إلى نوع من الإفلاس بخصوص النظريات التفسيرية التي كانت السلوكية تمثل النموذج القاعدة كما يبدو من خلال السياق التاريخي وجدلية الصيرورة بالنسبة إلى العلم السيكولوجي، يبقى المحرك الرئيسي لها والأكثر تمثيلية في الاشتغال العلمي هو الاتجاه المعرفي[60]. وهو الاتجاه الذي شكل منظورا جديدا في علم النفس. تجلت هذه المواقف إذن، في الاهتمام بالإشكاليات المتعلقة بالأنطولوجيا وبالإبستمولوجيا الأساسية لعلم النفس. بمعنى أنه على المستوى الأنطولوجي يتم الانتقال من الصيغة التي تعتبر علم النفس هو علم السلوك[61] وذلك في اتجاه التجاوز، بحيث إن النشاط العقلي هو الذي يجب أن يكون محط الاهتمام، ومن ثم فإن علم النفس ضمن هذا التصور يهدف إلى أن يكون علما لما هو موجود أو يقع خلف السلوكات الظاهرة. على المستوى الإبستمولوجي فعلم النفس المعرفي يطرح باعتباره بمثابة توجه إبستمولوجي يتعلق بموضوع علم النفس ذاته[62].
بيد أن نوعية هذه الاهتمامات والمشروع العلمي الذي أسست له، لم تمنع من كون كثير من الباحثين والدارسين يرون أن أهم الصعوبات التي تواجه البحث في هذا المجال تتمثل في أن كافة العمليات المعرفية كوقائع وسيرورات تبقى غير محسوسة وغير مرئية[63]. والحال أنها من الإشكاليات التي تطرح سواء بصيغة أو بأخرى، بحيث تقترن بها مساءلات من قبيل ما إذا كانت معرفة هذه الوقائع ممكنة وقابلة للتحقق، باعتبار أن الملاحظة التي تفترض وجود هذه الوقائع تظل عمليا متعذرة، وهو الأمر الذي كان يرفضه ويعترض عليه الاتجاه السلوكي[64]. أي أن كل ما يرتبط بالفرد وتستحيل ملاحظته، فإنه لا يرقى إلى موضوع المساءلة العلمية. بطبيعة الحال، فالطرح المعرفي لا يتقيد بهذا الموقف، حيث إنه سيستأنس بطريقة الاستبطان في سبيل البيان ومن أجل محاولة التغلب على مثل تلك الصعوبات، ولكن من دون الاستسلام لإغراءات هذه الطريقة[65]. إذ إنه، بحسب هذا الطرح، يمكن للاستبطان إلى جانب التجارب التي يجريها علماء النفس على الأفراد، أن يؤدي إلى نتائج قيمة تفيد بما يمكن للعقل الإنساني أن يحتفظ به بسهولة، وكذلك أي استنتاجات يمكن أن يخرج بها العقل الإنساني[66].
من نتائج النقلة النوعية التي حصلت مع العلوم المعرفية سواء على المستوى العلمي أو على المستوى الإبستمولوجي، أن المحور النظري في علم النفس المعرفي سينتقل من مفهوم السلوك المرتبط بالسلوكية وبالتراث المفاهيمي الذي صار كلاسيكيا إلى مفهوم المعرفة ومرفقاته من الأدوات المفاهيمية الجديدة. ذلك أن مجال علم النفس المعرفي ستحصل ضمنه قناعة مفادها أن العلم السيكولوجي بفعل التقدم الحاصل ومستويات النظر والاشتغال لا يجب أن ينحصر في معالجة الظواهر والسيرورات النفسية أو العقلية من حيث العلائق والروابط بالوقائع الخاضعة للملاحظة، ولكن ضرورة التوسع في الاهتمام بالوقائع الغير خاضعة للملاحظة والعمليات المفترضة من مثل: التمثل والاعتقاد والقصدية والوعي أو الشعور. إنها تلك العمليات التي لا يمكن تقديم فهم وتفسير بشأنها فقط من خلال تعبيراتها ومظاهرها الخارجية. فتوسيع الاهتمام على هذا الأساس طبعا سوف لن يكون على حساب الضبط المنهجي، بل في ظل الالتزام بالموضوعية والطريقة التجريبية[67].
بالنسبة إلى علم النفس المعرفي، حتى أنه حينما يتعلق الأمر بتحليل السلوكات القابلة للملاحظة لدى فرد معين وذلك في موقف معين (على غرار المنطق المعتمد في علم النفس التجريبي)، فإنه يمكن أن يتم وفق ما يتعلق بالمعارف والمعتقدات لدى هذا الفرد فيما يخص الموقف، وكذلك وفق المعالجة العقلية التي يقوم بها هذا الفرد بشأن هذه المعارف والمعتقدات[68]. أي الكيفية التي يتفاعل بها مع الموقف وما يعبر عنه من إدراكه وتفاعله هذا. مقاربة من هذا النمط من الاشتغال تسعى إلى توضيح هذه المعارف والطريقة التي عولجت بها. وهو النمط الذي سيعيد صياغة الممارسة البحثية في اعتبارها لموقع السلوك/الفرد وعلاقته بالموقف/البيئة.
ما من شك أن علم النفس المعرفي منذ قيامه كمجال له كيانه الخاص، اتخذ اتجاها يتمثل في كونه لم يتخل عن الشروط المميزة للعلم والتي تتجلى أساسا في الموضوعية والتجريب والتحقيق[69]. إلى جانب المعنى الذي يعكسه اعتبار علم النفس المعرفي أنه الشكل الراهن الذي تتخذه السيكولوجيا العلمية، وذلك على الخصوص من حيث توفر شروط المسعى العلمي[70]. من ناحية أخرى، فإن علم النفس المعرفي حسب طبيعة المجال ونوعية المهام المعني بها، يمكن أن يتحدد فقط من خلال الإشكاليات والقضايا التي يعالجها وليس من خلال الطريقة المستعملة لهذه المعالجة، أي أنه يمكن تمييزه بالأساس من حيث موضوع الانشغال لا من حيث أسلوب الاشتغال. بمعنى آخر، إن تحديده يقوم على الموضوع وليس على المنهج. هذا ليس معناه أنه لا يعير أهمية للمنهج، بل له مكانته التي تساهم في تحقيق المشروعية العلمية.
لقد كان العلماء والباحثون الذين ليسوا على اتفاق مع السلوكية أو أولئك الذين خيبتهم هذه الأخيرة، يتحدثون قليلا وبحذر (أو لا يتحدثون مطلقا) عن العقل والعمليات المعرفية أو الأنشطة العقلية المشابهة[46]، وذلك لأن السلوكية حرمت التفكير في تلك الموضوعات، كما عملت على محاربة وإقصاء أي شكل من أشكال الاهتمام بتلك الموضوعات والقضايا. إذ عالج السلوكيون الناس وكأنهم عبارة عن "صناديق سوداء" يمكن فهمها ببساطة فقط من خلال معالجة وقياس المثيرات الداخلة فيها والاستجابات الخارجة منها.
أما تمرد علماء النفس الذين سيؤسسون لما سيعرف بعلم النفس المعرفي على النموذج السلوكي، فهو للتأكيد على أن علماء النفس يجب أن يصلوا إلى فهم ما يجري داخل "الصندوق الأسود"، وبصفة خاصة العمليات العقلية[47].
لقد أتى علم النفس المعرفي إذن، للتأكيد على أهمية الظواهر والوقائع التي تحصل بين المثير والاستجابة، أي تلك العمليات والسيرورات العقلية التي تكون فاعلة على مستوى الصلة بين المثير والاستجابة، حيث يكون لها دور مهم إن لم يكن جوهري في الدلالة على فعل ونشاط الإنسان. وبذلك يتطلب الأمر الأخذ بالاعتبار عدد من المتغيرات والعوامل الوسيطة التي تسمح بتحويل معادلة المثير والاستجابة من طابعها الميكانيكي والتقليدي إلى معادلة حيوية ونشطة تتمثل في المعالجة Traitement. في هذا السياق أيضا سيأتي اعتماد مفهوم المعلومة[48] ليأخذ مكان مفهوم المثير الذي لم يعد يفي بالغرض، إذ صار مفهوم المعلومة بمثابة مفهوم أساسي في علم النفس المعرفي. أما النشاط العقلي لدى الإنسان، وهذا هو المقصد بالنسبة إلى المنظور الجديد، فإنه يعمل على تدبير ومعالجة هذه المعلومة لتحويلها إلى أشكال ومظاهر سلوكية[49] يتحقق من خلالها التفاعل والتوافق مع البيئة.
هكذا يتبين أن تعارض علم النفس السلوكي، أي علم النفس ذي الاتجاه السلوكي وكل مقاربة سيكولوجية تتناول العمليات العقلية هو أساسا تعارض بين المفاهيم المتعلقة بالسلوك وتلك التي تفيد ما هو عقلي معرفي[50].
لا شك أنه من أجل فهم طبيعة التجديد العلمي الذي حصل مع علم النفس المعرفي، لا بد من "وضعه في سياق دينامية البناء المفهومية المسترسلة، وعند ذلك لا يمكن الحديث عن اكتشاف علمي كحدث منعزل يتم في لحظة محددة بتدقيق وفي استقلال عن ذلك السياق"[51]. على هذا الأساس فإن قيام علم النفس المعرفي لم يحدث دفعة واحدة أو بكيفية منعزلة، حيث إن هناك مجموعة من الشروط التاريخية والفكرية التي كانت بمثابة عوامل مهيئة مؤطرة لما سيؤول عليه الأمر حاليا. بطبيعة الحال مع الأخذ بالاعتبار تلك الشروط العامة التي صاحبت قيام العلوم المعرفية.
وهكذا فإنه يمكن قراءة بروز هذا المجال السيكولوجي ضمن سياق تاريخي يتوزع على أربعة مراحل[52]، وهو سياق طبع التطور من علم النفس العام إلى علم النفس المعرفي، كما أنه يعكس جدلية نوعية في مسار علم النفس بشكل عام.
ـ المرحلة الأولى: تقترن باستقلال وانطلاق السيكولوجيا العلمية، وتميزت من خلال ما كان متاحا من دراسات تتعلق بالملكات والقدرات العقلية، كما أن الاهتمام اتجه إلى دراسة الإدراك الحسي مع اعتماد المنهج الموضوعي والإبقاء أيضا على منهج الاستبطان، إنها مرحلة نشطت خلالها حركة القياس العقلي ومحورها الأساسي الذكاء.
ـ المرحلة الثانية: تميزت باكتساح الاتجاه السلوكي لمجال علم النفس، وقد تمحورت الدراسات فيها حول التعلم والكشف عن العمليات التي تتحكم في اكتساب وصيرورة السلوك، مثل الإشراط والتعزيز باعتبارها عمليات تلعب دورا أساسيا في تحقيق توافق الفرد. هذه المرحلة شهدت أيضا قيام مدرسة الجشطلت Gestalt التي عارضت بشدة أطروحات السلوكية وانتصبت كمنافس قوي سواء على مستوى المنظور أو المقاربة، حيث أبرزت الطابع الكلي في تفسير السلوك على حساب الطابع التجزيئي. الجشطلت سعت إلى جعل الإدراك بمثابة الموضوع المركزي بالنسبة إلى علم النفس. كما ألحت هذه المدرسة على النظر إلى كل من الشعور والحياة العقلية من أجل فهم سيكولوجية الإنسان.
ـ المرحلة الثالثة: ستشكل منعطفا مهما في تطور علم النفس، حيث ستطبعها نشأة الاتجاه المعرفي. وهو اتجاه قام على معارضة ومواجهة أطروحات السلوكية بكيفية رئيسية، وقد انبنى في البداية من روافد متعددة تتجلى في تيارات ثلاثة[53]:
1-تيار ركز على البنيات العقلية: ومن مكوناته نظريات الجشطلت وبياجي وتشومسكي. فبالنسبة إلى الجشطلت أنها أولت أهمية بالغة للعمليات العقلية في النشاط الذهني، وجعلت النظر إلى الحياة العقلية باعتبارها أنساقا وأنظمة. فيما يتعلق بأعمال بياجي، كانت تندرج تحت تسمية "علم النفس المعرفي"، وهي الأعمال التي أنتجت نظرية قوية ومتكاملة حول النمو العقلي والمعرفي. أما تشومسكي فإنجازه في مجال اللسانيات التوليدية والتحويلية سيفيد قطاعات مهما في النشاط العقلي والذي هو قطاع اللغة.
2-تيار يعتبر أن النشاط العقلي هو نشاط يتمثل في معالجة المعلومات، وأن المعرفة تتحدد من خلال هذه المعالجة. وهذا الطرح نشأ على شاكلة تقابل بين العمليات التي يقوم بها الحاسوب من جهة والإنسان من جهة ثانية، أي بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني وذلك من حيث القدرة على معالجة المعلومات. ثم إن هذا التيار سيطبع بقوة مجال علم النفس المعرفي المعاصر.
3-تيار أخير ركز على دراسة الطريقة التي يعالج ويدبر بها الإنسان مختلف المعلومات وذلك من وجهة تجريبية، أي من خلال تجارب مختبرية وأبحاث أساسية دقيقة. فالاهتمام هنا اتجه إلى عمليات الانتباه من حيث الإمكانات والطاقة والمحدودية التي تتوفر عليها الذاكرة في اشتغالها.
لقد لعبت هذه التيارات دورا مهما في قيام الاتجاه المعرفي، وأسست الرصيد الفكري والعلمي لما سيكون عليه هذا الاتجاه[54]، بل أيضا الأرضية والأساس لما ستتشكل منه إلى حد ما العلوم المعرفية لاحقا.
ـ المرحلة الرابعة: تعتبر مرحلة متقدمة فيما يخص الاتجاه المعرفي، وستنشط خلالها العلوم المعرفية بفعالية كبيرة، الأمر الذي سيعزز من مركز علم النفس المعرفي. ستتعمق دراسة معالجة المعلومات سواء الرمزية أو غيرها، وذلك بتناولها على مستوى التمثلات المعرفية ومن خلال عمليات الفهم والاستدلال والتأويل. تميزت هذه المرحلة إذن، بدراسة وتحليل أشكال الاشتغال المعرفي للعقل الإنساني. إلى جانب إعطاء أهمية للاستبطان كطريقة تفيد في الكشف عن عدد من الوقائع التي لها حضور معين في هذا الاشتغال. وبذلك تسجل عودة إلى اهتمامات مؤسسي علم النفس خلال أواخر القرن 19، خاصة فيما يتعلق بالنشاط الذهني[55].
يتبين من خلال هذه النبذة حول المراحل التي طبعت السياق التاريخي لنشأة وتطور علم النفس المعرفي، بعض العوامل المؤثرة، والتي ستشكل منعطفا هاما بالنسبة إلى مجموع حقل علم النفس، وبخاصة فيما يتعلق بمجال الممارسة العلمية والاشتغال النظري[56]، لدرجة سيحل معها إقرار مفاده أن علم النفس من دون علم النفس المعرفي أصبح شيئا لا يمكن تصوره في الوقت الحالي[57].
يرتكز الاهتمام في علم النفس المعرفي، كما تتم صياغته في الفترة الراهنة وحسب مشروعه العلمي، على السعي نحو فهم وتبيان النشاطات العقلية التي يقوم بها فرد معين باعتباره بمثابة فاعل acteur (وليس مجرد مستجيب) وذلك من أجل تحقيق توافقه مع المواقف والظروف التي يواجهها[58]. وهذه النشاطات وما تعكسه من عمليات تتراوح من البسيط إلى المعقد، وبالتالي فالمسألة تمتد بالنسبة إلى الاشتغال العلمي إلى طرح نماذج والبرمجة لتعلم الفرد وإكسابه مهارات كاستثمار للنشاطات العقلية المختلفة. ومن ثمة فما هو سيكولوجي وذهني هو نوع السلوكات المدروسة. إنها تلك التي تسمح بالمعارف[59]، أو بتجسيد وتشكيل وتصريف هذه المعارف.
إن مواقف المراجعة وإعادة النظر الأساسية التي أدت إلى نوع من الإفلاس بخصوص النظريات التفسيرية التي كانت السلوكية تمثل النموذج القاعدة كما يبدو من خلال السياق التاريخي وجدلية الصيرورة بالنسبة إلى العلم السيكولوجي، يبقى المحرك الرئيسي لها والأكثر تمثيلية في الاشتغال العلمي هو الاتجاه المعرفي[60]. وهو الاتجاه الذي شكل منظورا جديدا في علم النفس. تجلت هذه المواقف إذن، في الاهتمام بالإشكاليات المتعلقة بالأنطولوجيا وبالإبستمولوجيا الأساسية لعلم النفس. بمعنى أنه على المستوى الأنطولوجي يتم الانتقال من الصيغة التي تعتبر علم النفس هو علم السلوك[61] وذلك في اتجاه التجاوز، بحيث إن النشاط العقلي هو الذي يجب أن يكون محط الاهتمام، ومن ثم فإن علم النفس ضمن هذا التصور يهدف إلى أن يكون علما لما هو موجود أو يقع خلف السلوكات الظاهرة. على المستوى الإبستمولوجي فعلم النفس المعرفي يطرح باعتباره بمثابة توجه إبستمولوجي يتعلق بموضوع علم النفس ذاته[62].
بيد أن نوعية هذه الاهتمامات والمشروع العلمي الذي أسست له، لم تمنع من كون كثير من الباحثين والدارسين يرون أن أهم الصعوبات التي تواجه البحث في هذا المجال تتمثل في أن كافة العمليات المعرفية كوقائع وسيرورات تبقى غير محسوسة وغير مرئية[63]. والحال أنها من الإشكاليات التي تطرح سواء بصيغة أو بأخرى، بحيث تقترن بها مساءلات من قبيل ما إذا كانت معرفة هذه الوقائع ممكنة وقابلة للتحقق، باعتبار أن الملاحظة التي تفترض وجود هذه الوقائع تظل عمليا متعذرة، وهو الأمر الذي كان يرفضه ويعترض عليه الاتجاه السلوكي[64]. أي أن كل ما يرتبط بالفرد وتستحيل ملاحظته، فإنه لا يرقى إلى موضوع المساءلة العلمية. بطبيعة الحال، فالطرح المعرفي لا يتقيد بهذا الموقف، حيث إنه سيستأنس بطريقة الاستبطان في سبيل البيان ومن أجل محاولة التغلب على مثل تلك الصعوبات، ولكن من دون الاستسلام لإغراءات هذه الطريقة[65]. إذ إنه، بحسب هذا الطرح، يمكن للاستبطان إلى جانب التجارب التي يجريها علماء النفس على الأفراد، أن يؤدي إلى نتائج قيمة تفيد بما يمكن للعقل الإنساني أن يحتفظ به بسهولة، وكذلك أي استنتاجات يمكن أن يخرج بها العقل الإنساني[66].
من نتائج النقلة النوعية التي حصلت مع العلوم المعرفية سواء على المستوى العلمي أو على المستوى الإبستمولوجي، أن المحور النظري في علم النفس المعرفي سينتقل من مفهوم السلوك المرتبط بالسلوكية وبالتراث المفاهيمي الذي صار كلاسيكيا إلى مفهوم المعرفة ومرفقاته من الأدوات المفاهيمية الجديدة. ذلك أن مجال علم النفس المعرفي ستحصل ضمنه قناعة مفادها أن العلم السيكولوجي بفعل التقدم الحاصل ومستويات النظر والاشتغال لا يجب أن ينحصر في معالجة الظواهر والسيرورات النفسية أو العقلية من حيث العلائق والروابط بالوقائع الخاضعة للملاحظة، ولكن ضرورة التوسع في الاهتمام بالوقائع الغير خاضعة للملاحظة والعمليات المفترضة من مثل: التمثل والاعتقاد والقصدية والوعي أو الشعور. إنها تلك العمليات التي لا يمكن تقديم فهم وتفسير بشأنها فقط من خلال تعبيراتها ومظاهرها الخارجية. فتوسيع الاهتمام على هذا الأساس طبعا سوف لن يكون على حساب الضبط المنهجي، بل في ظل الالتزام بالموضوعية والطريقة التجريبية[67].
بالنسبة إلى علم النفس المعرفي، حتى أنه حينما يتعلق الأمر بتحليل السلوكات القابلة للملاحظة لدى فرد معين وذلك في موقف معين (على غرار المنطق المعتمد في علم النفس التجريبي)، فإنه يمكن أن يتم وفق ما يتعلق بالمعارف والمعتقدات لدى هذا الفرد فيما يخص الموقف، وكذلك وفق المعالجة العقلية التي يقوم بها هذا الفرد بشأن هذه المعارف والمعتقدات[68]. أي الكيفية التي يتفاعل بها مع الموقف وما يعبر عنه من إدراكه وتفاعله هذا. مقاربة من هذا النمط من الاشتغال تسعى إلى توضيح هذه المعارف والطريقة التي عولجت بها. وهو النمط الذي سيعيد صياغة الممارسة البحثية في اعتبارها لموقع السلوك/الفرد وعلاقته بالموقف/البيئة.
ما من شك أن علم النفس المعرفي منذ قيامه كمجال له كيانه الخاص، اتخذ اتجاها يتمثل في كونه لم يتخل عن الشروط المميزة للعلم والتي تتجلى أساسا في الموضوعية والتجريب والتحقيق[69]. إلى جانب المعنى الذي يعكسه اعتبار علم النفس المعرفي أنه الشكل الراهن الذي تتخذه السيكولوجيا العلمية، وذلك على الخصوص من حيث توفر شروط المسعى العلمي[70]. من ناحية أخرى، فإن علم النفس المعرفي حسب طبيعة المجال ونوعية المهام المعني بها، يمكن أن يتحدد فقط من خلال الإشكاليات والقضايا التي يعالجها وليس من خلال الطريقة المستعملة لهذه المعالجة، أي أنه يمكن تمييزه بالأساس من حيث موضوع الانشغال لا من حيث أسلوب الاشتغال. بمعنى آخر، إن تحديده يقوم على الموضوع وليس على المنهج. هذا ليس معناه أنه لا يعير أهمية للمنهج، بل له مكانته التي تساهم في تحقيق المشروعية العلمية.
رد: علم النفس المعرفي قضايا النشأة والمفهوم
هذه الوضعية لم تمنع بدورها من أن تطرح عدد من الأسئلة الإبستمولوجية والمنهجية بالنسبة إلى هذا المجال كما هو الشأن بالنسبة إلى علوم المعرفة عامة، وذلك بالرجوع إلى ما كان مرفوضا من قبل السيكولوجيا العلمية فيما يتعلق ببعض القضايا وأشكال التعاطي معها[71]. ليس معنى هذا، أن ما كان غير مقبول تناوله علميا أصبح مقبولا والعكس بالعكس، بل كل ما في الأمر هو أن قضايا تترجم النشاط العقلي لم يكن مستساغا جعلها كموضوع لعلم النفس، وهي المسألة التي صارت ممكنة مع المنظور المعرفي. فمن تداعيات تجاوز الممنوعات التي كانت ملقاة على الإشكاليات الذهنية، أنه سجلت عودة إلى موضوعات مثل دراسة الصور الذهنية التي كانت منتشرة في بداية القرن العشرين. وقد تطور البحث في هذا الموضوع خلال السبعينيات مع المقاربة المعرفية، وهو الأمر الذي كان غير مستساغ وغير وارد البحث فيه فقط قبل عقد من تلك الفترة[72]، ويكفي التذكير في هذا الصدد بالصعوبات والانتقادات التي رافقت ظهور كتاب بياجي: الصورة الذهنية لدى الطفل سنة 1966. فهذا التطور سيفسح المجال للقضايا الذهنية أن تأخذ نصيبها من الاهتمام العلمي، خاصة في البحث السيكولوجي الأساسي. المقاربة المعرفية إذن، على عكس المقاربة السلوكية تنطلق من فكرة تفيد وجود وفاعلية الحالات الذهنية. ومن خلال مضامين هذه الحالات الذهنية وتجلياتها يمكن تفسير التصرفات الإنسانية[73].
ما يطرح من ملاحظات بخصوص قضايا الموضوع يطرح أيضا بالنسبة إلى المنهج، فليس بجديد القول إن التجريب شكل منهج السيكولوجيا العلمية بامتياز مع الإقصاء التام للاستبطان. وهو الإقصاء الذي عملت المقاربة المعرفية على رفعه واعتماد طريقة الاستبطان باعتدال (أي دون السقوط في الذاتية) إلى جانب المنهج الأساسي الذي هو التجريب. ثم إن المسألة لا تتوقف عند حدود تبني المنهج التجريبي، ولا أدل على ذلك من استعمال تعبير علم النفس المعرفي عوض تعبير علم النفس التجريبي أصبح رائجا في كثير من الأعمال والمؤسسات العلمية[74]. بل أكثر من ذلك، إذ هناك من يذهب إلى الجمع في مفهوم واحد: علم النفس التجريبي المعرفي باعتباره مفهوم مرادف للسيكولوجيا العلمية[75].
إن المزاوجة بين ما هو معرفي وما هو تجريبي كمسعى أو كطريقة اشتغال ليس بالمطلق أو النهائي، إنه بدون شك ليس سوى فعل ارتباط تاريخي مرحلي. بحيث إن علم النفس التجريبي يتحدد بالأساس من خلال المنهج وليس من خلال الموضوع[76]، بينما يبقى الموضوع هو المحدد الأساسي له في علم النفس المعرفي. مظهر آخر للارتباط والمزاوجة يتمثل في أن الظواهر والقضايا التي كانت تشكل تقليديا موضوعات علم النفس التجريبي (مثل: الإدراك، الذاكرة، اللغة، التعلم..) هي نفسها التي يعالجها علم النفس المعرفي. مع انفتاح هذا الأخير على قضايا ذهنية، في حين تم تسجيل قصور علم النفس التجريبي في دراسة المعرفة[77]، و على الخصوص في دراسة العقل وعملياته.
يهتم علم النفس المعرفي أساسا بدراسة مجموع الوظائف المعرفية التي تتمثل في النشاطات العقلية، بحيث إن هذه الوظائف يتم اعتبار أهميتها من خلال اشتغالها الفاعل والنشط لدى الإنسان. ثم إن الإنجازات الراهنة لهذا الفرع العلمي أثبتت أن تبني علم النفس عامة للمنهج التجريبي هي بمثابة مكسب جد مثمر ومصدر إغناء علمي[78].
موقف مماثل يحصل مع العلوم العصبية neurosciences، حيث إنه بنعت علم النفس المعرفي كمجال علمي يدرس العقل، تأتي إثارة مسألة العلاقة بين العقل والدماغ[79]. على اعتبار أن العقل هو نشاط الدماغ، وهو النشاط الذي من المعروف ولا ريب في ذلك، أن سنده يبقى عصبيا، بينما يتم التعاطي معه من حيث اعتباره بكيفية وظيفية[80]. فكما بينت العلوم العصبية (التي هي طرف في العلوم المعرفية) صيرورة اشتغال الدماغ في انسجام مع التكوين العضوي، سمح البحث السيكولوجي بتبيان دور التنظيم الذي يضفيه نظام العقل على المدركات[81] والمواقف. ثم هناك مظهر آخر يميز التوجه الذي ينخرط فيه كل من المجالين العلميين. علم النفس المعرفي ومن باب المهام التي يسعى إلى أن ينشط فيها ضمن مشروعه العام، فإنه يعطي لنفسه كبرنامج النزول مما هو منطقي إلى ما هو بيولوجي، بينما العلوم العصبية تقترح الصعود من البيولوجي إلى المنطقي[82]. ينضاف إلى ذلك، أنه بالنسبة إلى البحث السيكولوجي تمثل مجموع السيرورات التي تحتويها الحياة العقلية كوحدات للاشتغال المعرفي، ينظر إليها بصيغ طبيعية وهي تقترب من الاشتغال العصبي[83].
جل المشتغلين بعلم النفس المعرفي من علماء وباحثين يعتبرون أن سلوك الفرد هو على الأقل قائم على ما لدى هذا الفرد من معرفة cognition[84]. بمعنى أن سلوكه هذا هو دائما محكوم بما يعرف أو ببنائه المعرفي. فالبعد المعرفي إذن، يشكل أحد المحددات الهامة للتعامل مع الموقف الذي من خلاله وعلى ضوئه يحدث السلوك أو يكتسب، مع ما يتضمن هذا الأخير من عمليات نشطة في التعامل المعني.
المنظور المعرفي يعتبر بديهيا أن كل معرفة تفترض الانتقاء والتأويل للمعلومات التي يستقبلها ويحصل عليها الفرد، وبالنسبة إلى العقل أو التفكير فإن كلاهما يقتضي العمل باستراتيجيات، من نموذج حل المشكلات مثلا، التي تتوافق مع كل موقف ووضعية[85]. أما فيما يتعلق بالأخصائي في علم النفس المعرفي (وهو اختصاص في الاشتغال العلمي الأساسي يمتد أيضا إلى الممارسة النفسانية، بحيث صار لما يعرف بالعلاج المعرفي Thérapie cognitive مكانه المتميز ضمن أشكال العلاج النفسي)، يتجلى دوره في إظهار وإثبات ما يقع داخل "الصندوق الأسود" للعقل. شغله الشاغل إذن، يتبدى في البحث من أجل فهم طبيعة الحالات الذهنية من مثل التمثلات représentations والصور images والمفاهيم concepts وغيرها التي تؤثث التفكير لدى الفرد، وكذلك توجه التصرفات والسلوكات[86].
على مستوى البحث إذن، فالاشتغال يتجه إلى ممارسة نوع من التحليل "الوظيفي" لمثل هذه العمليات العقلية[87]. كما أن الاهتمام ينصب على عدد من القضايا من قبيل:
ـ المعرفة من حيث صيرورتها والتنظيم وفق البناء المعرفي للفرد.
ـ تجهيز وتصريف ومعالجة المعلومات من حيث أنظمة التجهيز وطبيعة اشتغالها.
ـ استراتيجيات التجهيز والمعالجة التي تتوقف فاعليتها على خصائص البناء المعرفي للفرد[88].
بصفة عامة، مجال علم النفس المعرفي يزخر بعدد من المهام والأهداف الخاصة التي تستهدف اشتغال العقل لدى الإنسان، كما تجدر الإشارة إلى أن الازدهار الذي عرفه هذا المجال وأيضا بالنسبة إلى الأطروحات والنماذج المعرفية، قد ساهم فيه التطور الحاصل في قطاع تكنولوجيا الحاسوب والمعلوميات[89]. في هذا الإطار، لا مندوحة من القول بأنه من بين مختلف المجالات العلمية والفكرية التي تتشكل منها العلوم المعرفية، يتميز علم النفس بوضع خاص[90]، وذلك لاعتبارات منها:
ـ أنه تأثر "بالثورة المعرفية"، وذلك بالاستعارة من المجالات العلمية المجاورة[91] سواء على مستوى المفاهيم أوأدوات الاشتغال.
ـ قوة المكانة التي أصبح يحتلها داخل الحقل العام لعلم النفس من جهة، ومن جهة أخرى ضمن نظام المعارف والعلوم بصفة عامة.
ـ أنه يشكل في الواقع إدماجا للمظاهر العامة والارتقائية والاجتماعية في أبعادها السلوكية والعصبية الفيزيولوجية[92].
ـ أنه عمل على جمع وتوحيد عدد من المباحث التي كان لها تقليديا مكانها ضمن مجالات مختلفة من علم النفس مثل: الإدراك والانتباه والذاكرة واللغة والنشاطات العقلية، وذلك داخل فضاء مستقل للبحث وهو المتعلق بالمعرفة، ومن ثم جعلها موضوعا خاصا به[93].
ثم إن هذا الوضع الخاص الذي يطبع مجال علم النفس المعرفي، لا يعفيه من أنه على مستوى تحديد الهوية العلمية يبقى تقريبا مرادفا لتعابير متنوعة ومعقدة شيئا ما، من نوع: دراسة وتحليل جمع وتخزين ونقل ومعالجة المعلومات لدى الإنسان
ما يطرح من ملاحظات بخصوص قضايا الموضوع يطرح أيضا بالنسبة إلى المنهج، فليس بجديد القول إن التجريب شكل منهج السيكولوجيا العلمية بامتياز مع الإقصاء التام للاستبطان. وهو الإقصاء الذي عملت المقاربة المعرفية على رفعه واعتماد طريقة الاستبطان باعتدال (أي دون السقوط في الذاتية) إلى جانب المنهج الأساسي الذي هو التجريب. ثم إن المسألة لا تتوقف عند حدود تبني المنهج التجريبي، ولا أدل على ذلك من استعمال تعبير علم النفس المعرفي عوض تعبير علم النفس التجريبي أصبح رائجا في كثير من الأعمال والمؤسسات العلمية[74]. بل أكثر من ذلك، إذ هناك من يذهب إلى الجمع في مفهوم واحد: علم النفس التجريبي المعرفي باعتباره مفهوم مرادف للسيكولوجيا العلمية[75].
إن المزاوجة بين ما هو معرفي وما هو تجريبي كمسعى أو كطريقة اشتغال ليس بالمطلق أو النهائي، إنه بدون شك ليس سوى فعل ارتباط تاريخي مرحلي. بحيث إن علم النفس التجريبي يتحدد بالأساس من خلال المنهج وليس من خلال الموضوع[76]، بينما يبقى الموضوع هو المحدد الأساسي له في علم النفس المعرفي. مظهر آخر للارتباط والمزاوجة يتمثل في أن الظواهر والقضايا التي كانت تشكل تقليديا موضوعات علم النفس التجريبي (مثل: الإدراك، الذاكرة، اللغة، التعلم..) هي نفسها التي يعالجها علم النفس المعرفي. مع انفتاح هذا الأخير على قضايا ذهنية، في حين تم تسجيل قصور علم النفس التجريبي في دراسة المعرفة[77]، و على الخصوص في دراسة العقل وعملياته.
يهتم علم النفس المعرفي أساسا بدراسة مجموع الوظائف المعرفية التي تتمثل في النشاطات العقلية، بحيث إن هذه الوظائف يتم اعتبار أهميتها من خلال اشتغالها الفاعل والنشط لدى الإنسان. ثم إن الإنجازات الراهنة لهذا الفرع العلمي أثبتت أن تبني علم النفس عامة للمنهج التجريبي هي بمثابة مكسب جد مثمر ومصدر إغناء علمي[78].
موقف مماثل يحصل مع العلوم العصبية neurosciences، حيث إنه بنعت علم النفس المعرفي كمجال علمي يدرس العقل، تأتي إثارة مسألة العلاقة بين العقل والدماغ[79]. على اعتبار أن العقل هو نشاط الدماغ، وهو النشاط الذي من المعروف ولا ريب في ذلك، أن سنده يبقى عصبيا، بينما يتم التعاطي معه من حيث اعتباره بكيفية وظيفية[80]. فكما بينت العلوم العصبية (التي هي طرف في العلوم المعرفية) صيرورة اشتغال الدماغ في انسجام مع التكوين العضوي، سمح البحث السيكولوجي بتبيان دور التنظيم الذي يضفيه نظام العقل على المدركات[81] والمواقف. ثم هناك مظهر آخر يميز التوجه الذي ينخرط فيه كل من المجالين العلميين. علم النفس المعرفي ومن باب المهام التي يسعى إلى أن ينشط فيها ضمن مشروعه العام، فإنه يعطي لنفسه كبرنامج النزول مما هو منطقي إلى ما هو بيولوجي، بينما العلوم العصبية تقترح الصعود من البيولوجي إلى المنطقي[82]. ينضاف إلى ذلك، أنه بالنسبة إلى البحث السيكولوجي تمثل مجموع السيرورات التي تحتويها الحياة العقلية كوحدات للاشتغال المعرفي، ينظر إليها بصيغ طبيعية وهي تقترب من الاشتغال العصبي[83].
جل المشتغلين بعلم النفس المعرفي من علماء وباحثين يعتبرون أن سلوك الفرد هو على الأقل قائم على ما لدى هذا الفرد من معرفة cognition[84]. بمعنى أن سلوكه هذا هو دائما محكوم بما يعرف أو ببنائه المعرفي. فالبعد المعرفي إذن، يشكل أحد المحددات الهامة للتعامل مع الموقف الذي من خلاله وعلى ضوئه يحدث السلوك أو يكتسب، مع ما يتضمن هذا الأخير من عمليات نشطة في التعامل المعني.
المنظور المعرفي يعتبر بديهيا أن كل معرفة تفترض الانتقاء والتأويل للمعلومات التي يستقبلها ويحصل عليها الفرد، وبالنسبة إلى العقل أو التفكير فإن كلاهما يقتضي العمل باستراتيجيات، من نموذج حل المشكلات مثلا، التي تتوافق مع كل موقف ووضعية[85]. أما فيما يتعلق بالأخصائي في علم النفس المعرفي (وهو اختصاص في الاشتغال العلمي الأساسي يمتد أيضا إلى الممارسة النفسانية، بحيث صار لما يعرف بالعلاج المعرفي Thérapie cognitive مكانه المتميز ضمن أشكال العلاج النفسي)، يتجلى دوره في إظهار وإثبات ما يقع داخل "الصندوق الأسود" للعقل. شغله الشاغل إذن، يتبدى في البحث من أجل فهم طبيعة الحالات الذهنية من مثل التمثلات représentations والصور images والمفاهيم concepts وغيرها التي تؤثث التفكير لدى الفرد، وكذلك توجه التصرفات والسلوكات[86].
على مستوى البحث إذن، فالاشتغال يتجه إلى ممارسة نوع من التحليل "الوظيفي" لمثل هذه العمليات العقلية[87]. كما أن الاهتمام ينصب على عدد من القضايا من قبيل:
ـ المعرفة من حيث صيرورتها والتنظيم وفق البناء المعرفي للفرد.
ـ تجهيز وتصريف ومعالجة المعلومات من حيث أنظمة التجهيز وطبيعة اشتغالها.
ـ استراتيجيات التجهيز والمعالجة التي تتوقف فاعليتها على خصائص البناء المعرفي للفرد[88].
بصفة عامة، مجال علم النفس المعرفي يزخر بعدد من المهام والأهداف الخاصة التي تستهدف اشتغال العقل لدى الإنسان، كما تجدر الإشارة إلى أن الازدهار الذي عرفه هذا المجال وأيضا بالنسبة إلى الأطروحات والنماذج المعرفية، قد ساهم فيه التطور الحاصل في قطاع تكنولوجيا الحاسوب والمعلوميات[89]. في هذا الإطار، لا مندوحة من القول بأنه من بين مختلف المجالات العلمية والفكرية التي تتشكل منها العلوم المعرفية، يتميز علم النفس بوضع خاص[90]، وذلك لاعتبارات منها:
ـ أنه تأثر "بالثورة المعرفية"، وذلك بالاستعارة من المجالات العلمية المجاورة[91] سواء على مستوى المفاهيم أوأدوات الاشتغال.
ـ قوة المكانة التي أصبح يحتلها داخل الحقل العام لعلم النفس من جهة، ومن جهة أخرى ضمن نظام المعارف والعلوم بصفة عامة.
ـ أنه يشكل في الواقع إدماجا للمظاهر العامة والارتقائية والاجتماعية في أبعادها السلوكية والعصبية الفيزيولوجية[92].
ـ أنه عمل على جمع وتوحيد عدد من المباحث التي كان لها تقليديا مكانها ضمن مجالات مختلفة من علم النفس مثل: الإدراك والانتباه والذاكرة واللغة والنشاطات العقلية، وذلك داخل فضاء مستقل للبحث وهو المتعلق بالمعرفة، ومن ثم جعلها موضوعا خاصا به[93].
ثم إن هذا الوضع الخاص الذي يطبع مجال علم النفس المعرفي، لا يعفيه من أنه على مستوى تحديد الهوية العلمية يبقى تقريبا مرادفا لتعابير متنوعة ومعقدة شيئا ما، من نوع: دراسة وتحليل جمع وتخزين ونقل ومعالجة المعلومات لدى الإنسان
مفهوم المعرفة:
إن كلمة معرفة cognition قد حلت محل كلمة معرفة Connaissance-knowledge من دون أن تلغيها أو تعوضها، ولكن من أجل شغل موضوع فحص علمي وقيامها كأداة مفاهيمية متميزة. فعلى الرغم من أصل الكلمة اللاتيني cognitio، أنها أتت من الإنجليزية[94] بنفس البناء، وذلك بفعل ظروف استعمال المفهوم والعلوم المؤطرة له. هكذا يكون بروز الكلمة وانتشارها بقوة جاء مع النقلة التي حققها علم النفس المعرفي بصفة خاصة والعلوم المعرفية بصفة عامة. ثم إن ازدهار الكلمة يجد تفسيره بدون شك من كونها تتضمن إحالة على نشاط الفرد الذي يعرف ويكتسب معارف. بينما هذه الأخيرة، أي المعارف فهي تشير بالأساس إلى منتوج هذه النشاطات[95]. وهي النشاطات في مجملها التي تساهم لدى الفرد في تنمية المعارف والحفاظ عليها وكذا استعمالها، كما أنها نشاطات تتفاعل على مستوى عمليات الإدراك والذاكرة والتعلم واللغة.
إن التمييز بين الكلمتين إذن، يجد معناه إلى حد ما في العلاقة بالدماغ cerveau، حيث إن المعرفة cognition هي بمثابة النشاط الأساسي للدماغ سواء من وجهة بنيوية أو من وجهة وظيفية[96]، بينما المعارف connaissances فهي مجموع نواتج ومحصول هذا النشاط. وبالتالي يمكن القول بداهة أنه ليس هناك من معرفة إلا حيثما يوجد دماغ[97].
في هذا السياق يمكن اعتبار المعرفة بمثابة مجموع النشاطات والآليات التي ترتبط بالمعارف وبالوظيفة التي تعمل على تحقيق هذه المعارف. بمعنى أن المعارف تبقى هي هدف أو وظيفة المعرفة[98]، سواء اشتغلت هذه النشاطات بكيفية سوية أو أصابها بعض الاختلال والاضطراب، الشيء الذي ينعكس بشكل من الأشكال على شخصية الإنسان. فقد امتدت الاهتمامات السيكولوجية لهذا الجانب أيضا، ذلك أن الأمراض العقلية وجدت مقاربة لها في علم النفس المرضي psychopathologie وهي المقاربة المعرفية التي أصبح لها صيت في هذا الإطار[99]، كما أن العلاج النفسي المعرفي صار بدوره ممارسة علاجية لا مناص منها.
خلاصة القول إنه ما عدا هذا الجناس اللغوي الذي يحيط بمفهوم المعرفة والذي يتطلب أحيانا التوضيح والبيان، لا بد من التذكير بأن المعرفة اعتبرت بمثابة لفظة جديدة وذلك في استعمالها من حيث الإشارة إلى النشاط المعرفي[100].
يتضح بشكل عام أن المعرفة تدخل في كل ما يمكن للإنسان أن يعقله أو يمارسه في حياته، كما يتبين كذلك أن كل ظاهرة نفسية لدى الإنسان هي ظاهرة معرفية[101]. ومن ثم فإن مجال المعرفة يطابق بكيفية جلية وظيفة كبيرة وأساسية ومتطورة لدى الإنسان، حتى وإن كانت بادية لدى بعض الأنواع الحيوانية بحجم معين. إنها الوظيفة التي تستهدف البقاء والوجود، كما أنها عبارة عن قدرة ومهارة حيوية لمعرفة العالم وتمثله والتفكير فيه ومن خلال ذلك الفعل فيه[102].
من الملاحظ أيضا أنه عوض استخدام مفهوم الوظائف، فإن البعض من الباحثين عاد ليستعمل من جديد مفهوم الملكات facultés العقلية أو المعرفية[103].
في نفس السياق المتعلق بمجال المعرفة، هناك مفهوم الجهاز المعرفي appareil cognitif[104]، وهو من المفاهيم المستحدثة والتي أخذت مكانا لها في معجم العلوم المعرفية سيرا على نفس التقليد المعمول به في علوم أخرى تدريس الإنسان بكيفية عضوية أو وظيفية، من مثل مفهوم الجهاز العصبي في العلوم العصبية وعلم النفس الفيزيولوجي ومفهوم الجهاز النفسي في التحليل النفسي إلى غير ذلك.
في هذا الإطار يبدو أن الجهاز المعرفي تنوعت بشأن النظر إليه مقاربات، وذلك من زاوية اهتمام كل واحدة والأهمية التي توليها لأحد الجوانب الذي تعتبره محددا أساسيا لهذا الجهاز. وهذه المقاربات ترتبط كل واحدة منها بفئة من الباحثين في المجال المعرفي[105]، فهناك إذن:
ـ من الباحثين من يعتبر الجهاز المعرفي بمثابة مرادف للدماغ، وعليه فالأمر يتعلق بدراسة المكونات العصبية للدماغ والنشاط المتولد عنها.
ـ بالنسبة إلى البعض الآخر، الجهاز المعرفي هو أساسا نظام لمعالجة المعلومات على شاكلة اشتغال الحاسوب، وذلك وفقا لبرنامج محدد وبنفس منطق العمليات التي تقوم عليها المعالجة الآلية للمعلومات.
ـ بالنسبة إلى الآخرين، فالجهاز المعرفي هو موضوع صوري، يقتضي التمييز فيه للمؤهلات والمهارات المجردة.
إنها المقاربات التي من أجل تبيان خصوصيتها وطبيعة اهتمامها، تطلق عليها تسميات المقاربة الصورية والمقاربة الوظيفية والمقاربة الآلية. وتبقى هذه المقاربات بمثابة طروحات تفسيرية نوعية[106] رغم التمايز الذي يصنفها، لكنها تتكامل وذلك باجتماعها حول نفس الموضوع: الجهاز المعرفي. وتبقى هذه المقاربات
أيضا أساسية سواء في خصوصية كل واحدة أو في تفاعلها، وذلك لدراسة مختلف النشاطات المعرفية من الاستعدادات مرورا بالسيرورات إلى دينامية الفعل والاشتغال.
الصيرورة والآفاق:
التطورات التي عرفها علم النفس خلال العقود الأخيرة –والتي لازالت ديناميتها قائمة ومستمرة- يبقى محركها الأساسي وبدون منازع هو علم النفس المعرفي[107] وبالتالي نتج عن هذه التطورات مجموعة من الإنجازات منها:
ـ إعادة تشكيل المجال العام لعلم النفس والانفراجات التي حصلت في المجالات الفرعية، حيث يبدو علم النفس الاجتماعي مثلا مجالا نموذجيا لهذا الانفراج، فالصيغة التي صار بها هذا المجال هي أنه مجال معرفي بامتياز[108].
ـ تحديث خطابه وأشكال اشتغاله العلمي، بما في ذلك من تداعيات على الممارسة وتنظيم العلاقات الداخلية والخارجية بالمعارف والعلوم.
ـ انتقال الدراسة لديه من الاهتمام بالوظائف والقدرات العقلية والنفسية إلى الاهتمام بعمليات المعالجة (وليس العلاج)، مع التركيز على الشروط والظروف الواقعية التي تتم وفقها هذه العمليات.
ثم إن هذه التطورات التي كان وراءها علم النفس المعرفي، قابلها بطبيعة الحال تطور علمي وما رافقه من تطور تكنولوجي ومعلوماتي[109]. في هذا الاتجاه لا بد من الإشارة إلى أن المقاربة المعرفية فيما يتعلق بتفسير السلوك بوجه عام، يعتبرها أغلب المشتغلين والباحثين بمثابة الأسلوب الأكثر ملاءمة لفهم الكثير من أساليب النشاط العقلي التي يمارسها الإنسان في كثير من مواقف حياته[110]. وهو الأمر الذي ترتب عليه أن علم النفس صار سيكولوجيا العقل، في حين أن السلوكية أرادته سيكولوجيا السلوك[111].
من ناحية أخرى، فهذه التطورات والتحولات الخارجية والداخلية التي حصلت مع المنظور المعرفي خاصة بالنسبة إلى علم النفس، هي بمثابة مظاهر تشترك في الإحالة على سؤال مآل هذا المجال في سياق سوق العلم على غرار المكانة التي كانت له وفق النسق السابق. على اعتبار أن الحدود التقليدية بين علوم الطبيعة من جهة وعلوم الإنسان والمجتمع من جهة أخرى (وهي العلوم التي شكلت دائما فضاء الانتماء بالنسبة إلىعلم النفس) لم تعد قائمة كما كانت في الماضي. فالمسألة إذن، التي يمكن طرحها في هذا الصدد، نعرض لها كالتالي: كيف هو موقف مختلف العلوم التي لها تقاليد مع علم النفس من المسار الذي اتجه فيه هذا الأخير؟ وهل سيعيد علم النفس تنظيم علاقاته بتلك العلوم بناء على مقتضيات هويته الجديدة؟ وهل سيتم استبعاد علم النفس من طرف العلوم الإنسانية الأخرى، وخاصة العلوم الاجتماعية إلى جانب العلوم الطبيعية، أو أن انشقاق العلوم المعرفية سيؤدي إلى إعادة تنظيم أكثر جذرية للروابط بين العلوم الإنسانية ومضامينها[112]؟
هذه جملة أسئلة على سبيل الذكر لا الحصر، قد نجد بعض عناصر الإحاطة بها وذلك من زاوية الأسس التي قامت وفقها العلوم المعرفية بشكل عام. بحيث إن التنظيم يقوم على تجميع بين علوم لها أهداف تتقاسمها أو بعض الميادين المشتركة أو بعض التجانس الذي يتوقف على أنماط الاشتغال سواء من الناحية المنهجية أو من الناحية الإجرائية. فهي إذن، عبارة عن مجموعات[113]، تتشكل منها الحقول العلمية.
هذا الشكل يقدم خطاطة تنتظم وفقها العلاقات والروابط بين عدد من العلوم والمعارف، وذلك حسب ثلاثة مجموعات رئيسية:
بالنسبة إلى المجموعة الأولى، تتكون من الفلسفة وعلم النفس واللسانيات. برنامج اشتغالها يستهدف العمليات المعرفية "العليا"، والتي يشكل الاستدلال عمودها الفقري، كما أن نشاطها تنتج عنه المعارف التي تبقى خاصية يتميز بها الإنسان إنها مجموعة علوم الإنسان.
المجموعة الثانية و تجمع العلوم العصبية والفيزياء والرياضيات، فهي تستهدف العمليات المعرفية "الدنيا"، وعلى الخصوص العمليات الحسية والإدراكية، والتي تنتج عنها مهارة معينة. إنها مجموعة العلوم الطبيعية.
فيما يتعلق بالمجموعة الثالثة، فهي تضم المعلوميات والذكاء الاصطناعي. ما يهمها هو الآفاق الصورية والاشتغال التطبيقي على قدرات الآلة والمادة التكنولوجية. هذه المجموعة تمثل علوم الهندسة[114].
إن كلمة معرفة cognition قد حلت محل كلمة معرفة Connaissance-knowledge من دون أن تلغيها أو تعوضها، ولكن من أجل شغل موضوع فحص علمي وقيامها كأداة مفاهيمية متميزة. فعلى الرغم من أصل الكلمة اللاتيني cognitio، أنها أتت من الإنجليزية[94] بنفس البناء، وذلك بفعل ظروف استعمال المفهوم والعلوم المؤطرة له. هكذا يكون بروز الكلمة وانتشارها بقوة جاء مع النقلة التي حققها علم النفس المعرفي بصفة خاصة والعلوم المعرفية بصفة عامة. ثم إن ازدهار الكلمة يجد تفسيره بدون شك من كونها تتضمن إحالة على نشاط الفرد الذي يعرف ويكتسب معارف. بينما هذه الأخيرة، أي المعارف فهي تشير بالأساس إلى منتوج هذه النشاطات[95]. وهي النشاطات في مجملها التي تساهم لدى الفرد في تنمية المعارف والحفاظ عليها وكذا استعمالها، كما أنها نشاطات تتفاعل على مستوى عمليات الإدراك والذاكرة والتعلم واللغة.
إن التمييز بين الكلمتين إذن، يجد معناه إلى حد ما في العلاقة بالدماغ cerveau، حيث إن المعرفة cognition هي بمثابة النشاط الأساسي للدماغ سواء من وجهة بنيوية أو من وجهة وظيفية[96]، بينما المعارف connaissances فهي مجموع نواتج ومحصول هذا النشاط. وبالتالي يمكن القول بداهة أنه ليس هناك من معرفة إلا حيثما يوجد دماغ[97].
في هذا السياق يمكن اعتبار المعرفة بمثابة مجموع النشاطات والآليات التي ترتبط بالمعارف وبالوظيفة التي تعمل على تحقيق هذه المعارف. بمعنى أن المعارف تبقى هي هدف أو وظيفة المعرفة[98]، سواء اشتغلت هذه النشاطات بكيفية سوية أو أصابها بعض الاختلال والاضطراب، الشيء الذي ينعكس بشكل من الأشكال على شخصية الإنسان. فقد امتدت الاهتمامات السيكولوجية لهذا الجانب أيضا، ذلك أن الأمراض العقلية وجدت مقاربة لها في علم النفس المرضي psychopathologie وهي المقاربة المعرفية التي أصبح لها صيت في هذا الإطار[99]، كما أن العلاج النفسي المعرفي صار بدوره ممارسة علاجية لا مناص منها.
خلاصة القول إنه ما عدا هذا الجناس اللغوي الذي يحيط بمفهوم المعرفة والذي يتطلب أحيانا التوضيح والبيان، لا بد من التذكير بأن المعرفة اعتبرت بمثابة لفظة جديدة وذلك في استعمالها من حيث الإشارة إلى النشاط المعرفي[100].
يتضح بشكل عام أن المعرفة تدخل في كل ما يمكن للإنسان أن يعقله أو يمارسه في حياته، كما يتبين كذلك أن كل ظاهرة نفسية لدى الإنسان هي ظاهرة معرفية[101]. ومن ثم فإن مجال المعرفة يطابق بكيفية جلية وظيفة كبيرة وأساسية ومتطورة لدى الإنسان، حتى وإن كانت بادية لدى بعض الأنواع الحيوانية بحجم معين. إنها الوظيفة التي تستهدف البقاء والوجود، كما أنها عبارة عن قدرة ومهارة حيوية لمعرفة العالم وتمثله والتفكير فيه ومن خلال ذلك الفعل فيه[102].
من الملاحظ أيضا أنه عوض استخدام مفهوم الوظائف، فإن البعض من الباحثين عاد ليستعمل من جديد مفهوم الملكات facultés العقلية أو المعرفية[103].
في نفس السياق المتعلق بمجال المعرفة، هناك مفهوم الجهاز المعرفي appareil cognitif[104]، وهو من المفاهيم المستحدثة والتي أخذت مكانا لها في معجم العلوم المعرفية سيرا على نفس التقليد المعمول به في علوم أخرى تدريس الإنسان بكيفية عضوية أو وظيفية، من مثل مفهوم الجهاز العصبي في العلوم العصبية وعلم النفس الفيزيولوجي ومفهوم الجهاز النفسي في التحليل النفسي إلى غير ذلك.
في هذا الإطار يبدو أن الجهاز المعرفي تنوعت بشأن النظر إليه مقاربات، وذلك من زاوية اهتمام كل واحدة والأهمية التي توليها لأحد الجوانب الذي تعتبره محددا أساسيا لهذا الجهاز. وهذه المقاربات ترتبط كل واحدة منها بفئة من الباحثين في المجال المعرفي[105]، فهناك إذن:
ـ من الباحثين من يعتبر الجهاز المعرفي بمثابة مرادف للدماغ، وعليه فالأمر يتعلق بدراسة المكونات العصبية للدماغ والنشاط المتولد عنها.
ـ بالنسبة إلى البعض الآخر، الجهاز المعرفي هو أساسا نظام لمعالجة المعلومات على شاكلة اشتغال الحاسوب، وذلك وفقا لبرنامج محدد وبنفس منطق العمليات التي تقوم عليها المعالجة الآلية للمعلومات.
ـ بالنسبة إلى الآخرين، فالجهاز المعرفي هو موضوع صوري، يقتضي التمييز فيه للمؤهلات والمهارات المجردة.
إنها المقاربات التي من أجل تبيان خصوصيتها وطبيعة اهتمامها، تطلق عليها تسميات المقاربة الصورية والمقاربة الوظيفية والمقاربة الآلية. وتبقى هذه المقاربات بمثابة طروحات تفسيرية نوعية[106] رغم التمايز الذي يصنفها، لكنها تتكامل وذلك باجتماعها حول نفس الموضوع: الجهاز المعرفي. وتبقى هذه المقاربات
أيضا أساسية سواء في خصوصية كل واحدة أو في تفاعلها، وذلك لدراسة مختلف النشاطات المعرفية من الاستعدادات مرورا بالسيرورات إلى دينامية الفعل والاشتغال.
الصيرورة والآفاق:
التطورات التي عرفها علم النفس خلال العقود الأخيرة –والتي لازالت ديناميتها قائمة ومستمرة- يبقى محركها الأساسي وبدون منازع هو علم النفس المعرفي[107] وبالتالي نتج عن هذه التطورات مجموعة من الإنجازات منها:
ـ إعادة تشكيل المجال العام لعلم النفس والانفراجات التي حصلت في المجالات الفرعية، حيث يبدو علم النفس الاجتماعي مثلا مجالا نموذجيا لهذا الانفراج، فالصيغة التي صار بها هذا المجال هي أنه مجال معرفي بامتياز[108].
ـ تحديث خطابه وأشكال اشتغاله العلمي، بما في ذلك من تداعيات على الممارسة وتنظيم العلاقات الداخلية والخارجية بالمعارف والعلوم.
ـ انتقال الدراسة لديه من الاهتمام بالوظائف والقدرات العقلية والنفسية إلى الاهتمام بعمليات المعالجة (وليس العلاج)، مع التركيز على الشروط والظروف الواقعية التي تتم وفقها هذه العمليات.
ثم إن هذه التطورات التي كان وراءها علم النفس المعرفي، قابلها بطبيعة الحال تطور علمي وما رافقه من تطور تكنولوجي ومعلوماتي[109]. في هذا الاتجاه لا بد من الإشارة إلى أن المقاربة المعرفية فيما يتعلق بتفسير السلوك بوجه عام، يعتبرها أغلب المشتغلين والباحثين بمثابة الأسلوب الأكثر ملاءمة لفهم الكثير من أساليب النشاط العقلي التي يمارسها الإنسان في كثير من مواقف حياته[110]. وهو الأمر الذي ترتب عليه أن علم النفس صار سيكولوجيا العقل، في حين أن السلوكية أرادته سيكولوجيا السلوك[111].
من ناحية أخرى، فهذه التطورات والتحولات الخارجية والداخلية التي حصلت مع المنظور المعرفي خاصة بالنسبة إلى علم النفس، هي بمثابة مظاهر تشترك في الإحالة على سؤال مآل هذا المجال في سياق سوق العلم على غرار المكانة التي كانت له وفق النسق السابق. على اعتبار أن الحدود التقليدية بين علوم الطبيعة من جهة وعلوم الإنسان والمجتمع من جهة أخرى (وهي العلوم التي شكلت دائما فضاء الانتماء بالنسبة إلىعلم النفس) لم تعد قائمة كما كانت في الماضي. فالمسألة إذن، التي يمكن طرحها في هذا الصدد، نعرض لها كالتالي: كيف هو موقف مختلف العلوم التي لها تقاليد مع علم النفس من المسار الذي اتجه فيه هذا الأخير؟ وهل سيعيد علم النفس تنظيم علاقاته بتلك العلوم بناء على مقتضيات هويته الجديدة؟ وهل سيتم استبعاد علم النفس من طرف العلوم الإنسانية الأخرى، وخاصة العلوم الاجتماعية إلى جانب العلوم الطبيعية، أو أن انشقاق العلوم المعرفية سيؤدي إلى إعادة تنظيم أكثر جذرية للروابط بين العلوم الإنسانية ومضامينها[112]؟
هذه جملة أسئلة على سبيل الذكر لا الحصر، قد نجد بعض عناصر الإحاطة بها وذلك من زاوية الأسس التي قامت وفقها العلوم المعرفية بشكل عام. بحيث إن التنظيم يقوم على تجميع بين علوم لها أهداف تتقاسمها أو بعض الميادين المشتركة أو بعض التجانس الذي يتوقف على أنماط الاشتغال سواء من الناحية المنهجية أو من الناحية الإجرائية. فهي إذن، عبارة عن مجموعات[113]، تتشكل منها الحقول العلمية.
هذا الشكل يقدم خطاطة تنتظم وفقها العلاقات والروابط بين عدد من العلوم والمعارف، وذلك حسب ثلاثة مجموعات رئيسية:
بالنسبة إلى المجموعة الأولى، تتكون من الفلسفة وعلم النفس واللسانيات. برنامج اشتغالها يستهدف العمليات المعرفية "العليا"، والتي يشكل الاستدلال عمودها الفقري، كما أن نشاطها تنتج عنه المعارف التي تبقى خاصية يتميز بها الإنسان إنها مجموعة علوم الإنسان.
المجموعة الثانية و تجمع العلوم العصبية والفيزياء والرياضيات، فهي تستهدف العمليات المعرفية "الدنيا"، وعلى الخصوص العمليات الحسية والإدراكية، والتي تنتج عنها مهارة معينة. إنها مجموعة العلوم الطبيعية.
فيما يتعلق بالمجموعة الثالثة، فهي تضم المعلوميات والذكاء الاصطناعي. ما يهمها هو الآفاق الصورية والاشتغال التطبيقي على قدرات الآلة والمادة التكنولوجية. هذه المجموعة تمثل علوم الهندسة[114].
رد: علم النفس المعرفي قضايا النشأة والمفهوم
هذه إذن، ملامح لبعض الوجهات التي تنتظم وفقها العلوم المعرفية، كما أن تجميعها في أقطاب ثلاثة هو من أجل تبيان مستويات التعاطي مع القضايا وأنماط الاشتغال التي تميز كل مجموعة، وبالتالي فإن ما تجتمع حوله كمشروع موحد يتمثل في موضوع المعرفة cognition. أما بالنسبة إلى علم النفس المعرفي ضمن هذا الوضع، فإنه يمكن ألا تكون له "مملكة خاصة"[115]به، على الرغم من الموقع المتميز الذي يحتله تاريخيا وعلميا ضمن الفضاء المعرفي.
[1] - Tête, A. La psychologie cognitive, questions vives. Bulletin de psychologie, n°390, 1989, p444.
[2] - Vidal, F. La place de la psychologie dans l’ordre des sciences, Revue de synthèse, n° 3-4, 1994, p327.
[3] - فلوجل، ج، ل. علم النفس مائة عام، ترجمة لطفي فطيم، بيروت، دار الطليعة، 1978، ص55.
[4] - Ghiglione, R et Richard, J.F. Cours de psychologie, T2, Paris, Dunod, 1999, p99.
[5] - موريس روكلان، تاريخ علم النفس، ترجمة علي زيعور ومقلد، بيروت، منشورات عويدات، 1977، ص28.
[6] - لندال. دافيدوف، مدخل علم النفس، ترجمة سيد الطواب ونجيب خزام، القاهرة، الدار الدولية للنشر والتوزيع، 1992، ص24.
[7] - مقالنا: حول مسألة التفسير في علم النفس، مجلة فكر ونقد، عدد 21، 1999، ص56.
[8] - Gardner, H. Histoire de la révolution cognitive, Paris, Payot, 1993.
[9] - Grand dictionnaire de psychologie, Paris, Larousse, 1991, p616.
[10] - Scheerer, E. Esquisse d’une histoire de la science cognitive, Revue internationale des sciences sociales, n°115, 1988, p10.
[11] - Sperber, D. Les sciences cognitives, les sciences sociales et le matérialisme, Le débat n°47, 1987, p107.
[12] - الترابطية connexionnisme تنظر إلى النشاطات المعرفية انطلاقا من هندسة للعقل. وهي النشاطات التي تنبني على تفاعلات بين عدة وحدات من شبكة الأعصبة، حيث تعمل على تشغيل المعلومات. ويشتهر هذا الاتجاه بنموذج "المعالجة المتوازية التوزيع" (P.D.P) "Parallel distributed processing". في هذا الموضوع يمكن مراجعة مقال:
Mc clelland, J.L. Une nouvelle approche de la cognition. Le connexionnisme. Le débat n°47, 1987, p45-64.
[13] - Bresson, F. La psychologie cognitive demain. In Fraisse (dir) Psychologie de demain, Paris, PUF, 1982, p86.
[14] - Leyens, J.P. et Beauvois, J.L. L’ère de la cognition. Grenoble, P.U.G, 1997.
[15] - Revue Sciences Humaines, La psychologie aujourd’hui, Hors série, n°19, 1997-98.
[16] - Le NY, J.F. Science cognitive et compréhension du langage, Paris, PUF, 1989, p9.
[17] - Scheerer, E. op.cit, p7.
[18] - بناصر البعزاتي، الاستدلال: مستويات في القوة والوثاقة، في كتاب آليات الاستدلال في العلم، منشورات كلية الآداب، الرباط، 2000، ص25.
[19] - Le NY, J.F. Idem.
[20] - Scheerer, E. op.cit., p5.
[21] - Le cerveau et la pensée, éd. Sciences Humaines, 1999, p200.
[22] - Andler, D. Le développement des sciences cognitives, La science au présent, T1, Encyclopédie universalise, Paris, 1992, p166.
(*) Andler, D.Sciences cognitives, Encyclopédie Universalise, Paris, 1996, p65.
[23] - Sfez, L. Critique de la communication, Paris, Seuil, 1990, p395-396.
[24] - Andler, D. Emergence du cognitif, Le débat, n°47, 1987, p5.
[25] - Imbert, M. Les neurosciences cognitives, Revue internationale des sciences sociales, n°115, 1988, p93.
[26] - بناصر البعزاتي، مرجع سابق، ص13.
[27] - Andler, D. Le développement des sciences cognitives, op.cit., p166.
[28] - Andler, Ibid.
[29]- Ibidem.
[30] - Scheerer, E. op.cit., p8.
[31] - Ibidem.
[32] - Ibidem.
[33] - Imbert, M., op.cit., p93.
[34] - Parot, F. Et Richelle, M. Introduction à la psychologie, Paris, PUF, 1992, p220.
[35] - Baddeley, A.D. Psychologie cognitive de la vie quotidenne, Bulletin de psychologie, n°383, 1987, p37.
[36] - فتحي مصطفة الزيات، سيكولوجية التعلم بين المنظور الارتباطي والمنظور المعرفي، القاهرة، دار النشر للجامعات، 1996، ص65.
[37] - Parot, F. Et al. Introduction…, op.cit., p221.
[38] - Parot, F. Et al. Ibidem.
[39] - فتحي الزيات، سيكولوجية التعلم، مرجع سابق، ص94.
[40] - فتحي الزيات، نفس المرجع.
[41] - Tiberghien, G. Psychologie cognitive, science de la cognition et technologie de la connaissance, In : Monteil et Fayol (dir) la psychologie scientifique et ses applications, Grenoble, PUG, 1989, p18.
[42] - SFEZ, L. Critique…, op.cit, p407.
[43] - المنظور السائد في علم النفس المعرفي هو نموذج معالجة المعلومات Traitement de l'information، إلى درجة أن هناك ميل إلى اعتبار علم النفس المعرفي هو أساسا سيكولوجيا معالجة المعلومات، انظر بهذا الخصوص: Tiberghien, G. Psychologie cognitive..., op.cit., p18.
[44] - Mehler, J. Et Dupoux, E. De la psychologie à la science cognitive, Le débat n°47, 1987, p65.
[45] - Mehler, et all. Ibidem.
[46] - Sperber, D. Les sciences cognitives…, op.cit., p105.
[47] - دافيدوف، ل. مدخل علم النفس، مرجع سابق، ص48.
[48] - مفهوم المعلومة information يعتبر مفهوم مركزي بالنسبة لمجموع العلوم المعرفية، وذلك لكونه يفي بالغرض سواء على مستوى ما هو نظري أو تقني أو إجرائي عملي.
[49] - Tiberghien, G. Psychologie cognitive…, op.cit., p18.
[50] - Fodor, J.A. L’explication en psychologie, Paris, Seghers, 1972, p86-87.
[51] - بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء، بحث في خصائص العقلية العلمية، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1999، ص253.
[52] - Richard, J.F. De la psychologie générale à la psychologie cognitive. In Ghiglione et Richard (dir), Cours de psychologie, T1, Paris, Dunod, 1992, p159.
[53] - Richard, J.F. Ibid, p161.
[54] - Richard, J.F. Ibid, p162.
[55] - Richard, J.F. Ibid, p163.
[56] - Parot, F. Et all. Introduction à la psychologie, op.cit., p374.
[57] - Scheerer, E. Esquisse d’une histoire…, op.cit., p10.
[58] - Fayot, M. Psychologie cognitive et instruction. In Monteil et Fayol (dir). La psychologie scientifique…, op.cit., p127.
[59] - Bresson, F. La psychologie cognitive demain…, op.cit., p89.
[60] - Le NY, J.F. Psychologie cognitive et psychologie de l’affectivité. In Fraisse (dir) psychologie de demain, Paris, PUF, 1982, p101.
[61] - Le NY, JF, Ibid, p105.
[62] - Parot, F. et al. Introduction à la psychologie, op.cit., p221.
[63] - فتحي الزيات، سيكولوجية التعلم، مرجع سابق، ص397.
[64]- Le NY, J.F. Psychologie cognitive et psychologie de l’affectivité, op.cit., p105.
[65] - Le NY, JF, Ibid, p106.
[66] - آلان بونيه، الذكاء الاصطناعي، واقعه ومستقبله، ترجمة علي فرغلي، الكويت، عالم المعرفة، 1993، ص23.
[67] - Tiberghien, G. Psychologie cognitive…, op.cit., p14.
[68] - Nguyen-Xuan, A. Modèle de fonctionnement en psychologie. In Ghiglione (dir) Comprendre l’homme, construire des modèles, Paris CNRS, 1985, p96.
[69] - Sfez, L. Critique de la communication, op.cit., p396.
[70] - Grand dictionnaire de la psychologie, Paris, Larousse, 1991, p140.
[71] - Andler, D. Le développement des sciences cognitives, op.cit., p169.
[72] - Bresson, F. La psychologie cognitive demain, op.cit., p85-86.
[73] - Mehler, J et Dupoux, E. De la psychologie à la science…, op.cit., p67.
[74] - Parot, F et al. Introduction à la psychologie, op.cit., p374.
[75] - Le NY, JF. La psychologie est durablement duale, Bulletin de psychologie, n°440, 1999, p277.
[76] - Grand dictionnaire de la psychologie, p140.
[77] - Johnson-Laird, P.N, Modèles, mentaux en sciences cognitive, Bulletin de psychologie, n°383, 1987, p61.
[78] - Matalon, B. Décrire, expliquer et prévoir, Paris, A.Colin, 1988, p13.
[79] - Dennett, D. La conscience expliquée, Paris, Ed. Odile Jacob, 1993, p321.
[80] - Le NY, J.F, Science cognitive et compréhension…, op.cit., p30.
[81] - البعزاتي بناصر، الاستدلال: مستويات في القوة…، مرجع سابق، ص25-26.
[82] - Tête, A. Entre neurosciences et psychologie cognitive : une frontière en question, Revue de synthèse, n°3-4, 1994, p489.
[83] - Le NY, JF, La psychologie est durablement duale, op.cit., p277.
[84] - فتحي الزيات، سيكولوجية التعلم، مرجع سابق، ص91.
[85] - Le cerveau et la pensée, Ed. Sciences humaines, op.cit., p203.
[86] - Le cerveau…, Ibid, p203.
[87] - Sperber, D. Les sciences cognitives…, op. Cit., p107.
[88] - فتحي الزيات، سيكولوجية التعلم، مرجع سابق، ص37.
[89] - Parot, F et al. Introduction à la psychologie…, op.cit., p221.
[90] - Scheerer, E. Esquisse d’une histoire…, op.cit., p10.
[91] - Scheerer, E. Idem.
[92] - Richard, J.F. De la psychologie générale à la psychologie cognitive, op.cit., p159.
[93] - Le NY, JF. Psychologie cognitive et psychologie de l’affectivité, op.cit., p107.
[94] - Parot, F et al. Introduction à la psychologie, op.cit., p220.
[95] - Parot, F et al. Idem.
[96] - Imbert, M. Les neurosciences cognitives, op.cit., p86.
[97] - Le NY, JF, Psychologie cognitive…, op.cit., p108.
[98] - Grand dictionnaire de psychologie, p136.
[99] - Lonescu, S. Approches de la psychologie, In Ghiglione et al (dir) cours de psychologie, T6, Paris, Dunod, 1995, p447-48.
[100] - Encyclopédie Universalis, vol. 18, 1974, p411.
[101] - نادية محمود شريف، الأساليب المعرفية الإدراكية وعلاقتها بمفهوم التمايز النفسي، مجلة عالم الفكر، عدد 2، مجلد 13، 1982، ص109.
[102] - Le NY, JF, Idem. P108.
[103] - Grand dictionnaire de psychologie, p139.
[104]- Mehler, J. Et Dupoux, E. De la psychologie à la science cognitive, op.cit., p82.
[105] - Mehler, et al. Ibid, p82-83.
[106] - Mehler, et al. Ibid, p82.
[107] - Bonnet, C-Ghiglione, R et Richard, J.F, Traité de psychologie cognitive, T3, Paris, Dunod, 1990.
[108] - Leyens, JP et Beauvois, J.L. L’ère de la cognition, Grenoble, PUG, 1997.
[109] - Bonnet, C et al. Traité de psychologie cognitive, op.cit.
[110] - نادية شريف، الأساليب المعرفية الإدراكية…، مرجع سابق، ص109.
[111] - Tête, A. Entre neurosciences et psychologie…, op.cit., p489.
[112] - Sperber, D. Les sciences cognitives…, op.cit., p108.
[113] - Andler, D. Sciences cognitives, Encyclopédie Universalis, op.cit., p66-67.
[114] - Andler, D. Ibidem.
[115] - Parot, F. Les territoires de la psychologie, Revue synthèse, n°3-4, 1994, p324.
[1] - Tête, A. La psychologie cognitive, questions vives. Bulletin de psychologie, n°390, 1989, p444.
[2] - Vidal, F. La place de la psychologie dans l’ordre des sciences, Revue de synthèse, n° 3-4, 1994, p327.
[3] - فلوجل، ج، ل. علم النفس مائة عام، ترجمة لطفي فطيم، بيروت، دار الطليعة، 1978، ص55.
[4] - Ghiglione, R et Richard, J.F. Cours de psychologie, T2, Paris, Dunod, 1999, p99.
[5] - موريس روكلان، تاريخ علم النفس، ترجمة علي زيعور ومقلد، بيروت، منشورات عويدات، 1977، ص28.
[6] - لندال. دافيدوف، مدخل علم النفس، ترجمة سيد الطواب ونجيب خزام، القاهرة، الدار الدولية للنشر والتوزيع، 1992، ص24.
[7] - مقالنا: حول مسألة التفسير في علم النفس، مجلة فكر ونقد، عدد 21، 1999، ص56.
[8] - Gardner, H. Histoire de la révolution cognitive, Paris, Payot, 1993.
[9] - Grand dictionnaire de psychologie, Paris, Larousse, 1991, p616.
[10] - Scheerer, E. Esquisse d’une histoire de la science cognitive, Revue internationale des sciences sociales, n°115, 1988, p10.
[11] - Sperber, D. Les sciences cognitives, les sciences sociales et le matérialisme, Le débat n°47, 1987, p107.
[12] - الترابطية connexionnisme تنظر إلى النشاطات المعرفية انطلاقا من هندسة للعقل. وهي النشاطات التي تنبني على تفاعلات بين عدة وحدات من شبكة الأعصبة، حيث تعمل على تشغيل المعلومات. ويشتهر هذا الاتجاه بنموذج "المعالجة المتوازية التوزيع" (P.D.P) "Parallel distributed processing". في هذا الموضوع يمكن مراجعة مقال:
Mc clelland, J.L. Une nouvelle approche de la cognition. Le connexionnisme. Le débat n°47, 1987, p45-64.
[13] - Bresson, F. La psychologie cognitive demain. In Fraisse (dir) Psychologie de demain, Paris, PUF, 1982, p86.
[14] - Leyens, J.P. et Beauvois, J.L. L’ère de la cognition. Grenoble, P.U.G, 1997.
[15] - Revue Sciences Humaines, La psychologie aujourd’hui, Hors série, n°19, 1997-98.
[16] - Le NY, J.F. Science cognitive et compréhension du langage, Paris, PUF, 1989, p9.
[17] - Scheerer, E. op.cit, p7.
[18] - بناصر البعزاتي، الاستدلال: مستويات في القوة والوثاقة، في كتاب آليات الاستدلال في العلم، منشورات كلية الآداب، الرباط، 2000، ص25.
[19] - Le NY, J.F. Idem.
[20] - Scheerer, E. op.cit., p5.
[21] - Le cerveau et la pensée, éd. Sciences Humaines, 1999, p200.
[22] - Andler, D. Le développement des sciences cognitives, La science au présent, T1, Encyclopédie universalise, Paris, 1992, p166.
(*) Andler, D.Sciences cognitives, Encyclopédie Universalise, Paris, 1996, p65.
[23] - Sfez, L. Critique de la communication, Paris, Seuil, 1990, p395-396.
[24] - Andler, D. Emergence du cognitif, Le débat, n°47, 1987, p5.
[25] - Imbert, M. Les neurosciences cognitives, Revue internationale des sciences sociales, n°115, 1988, p93.
[26] - بناصر البعزاتي، مرجع سابق، ص13.
[27] - Andler, D. Le développement des sciences cognitives, op.cit., p166.
[28] - Andler, Ibid.
[29]- Ibidem.
[30] - Scheerer, E. op.cit., p8.
[31] - Ibidem.
[32] - Ibidem.
[33] - Imbert, M., op.cit., p93.
[34] - Parot, F. Et Richelle, M. Introduction à la psychologie, Paris, PUF, 1992, p220.
[35] - Baddeley, A.D. Psychologie cognitive de la vie quotidenne, Bulletin de psychologie, n°383, 1987, p37.
[36] - فتحي مصطفة الزيات، سيكولوجية التعلم بين المنظور الارتباطي والمنظور المعرفي، القاهرة، دار النشر للجامعات، 1996، ص65.
[37] - Parot, F. Et al. Introduction…, op.cit., p221.
[38] - Parot, F. Et al. Ibidem.
[39] - فتحي الزيات، سيكولوجية التعلم، مرجع سابق، ص94.
[40] - فتحي الزيات، نفس المرجع.
[41] - Tiberghien, G. Psychologie cognitive, science de la cognition et technologie de la connaissance, In : Monteil et Fayol (dir) la psychologie scientifique et ses applications, Grenoble, PUG, 1989, p18.
[42] - SFEZ, L. Critique…, op.cit, p407.
[43] - المنظور السائد في علم النفس المعرفي هو نموذج معالجة المعلومات Traitement de l'information، إلى درجة أن هناك ميل إلى اعتبار علم النفس المعرفي هو أساسا سيكولوجيا معالجة المعلومات، انظر بهذا الخصوص: Tiberghien, G. Psychologie cognitive..., op.cit., p18.
[44] - Mehler, J. Et Dupoux, E. De la psychologie à la science cognitive, Le débat n°47, 1987, p65.
[45] - Mehler, et all. Ibidem.
[46] - Sperber, D. Les sciences cognitives…, op.cit., p105.
[47] - دافيدوف، ل. مدخل علم النفس، مرجع سابق، ص48.
[48] - مفهوم المعلومة information يعتبر مفهوم مركزي بالنسبة لمجموع العلوم المعرفية، وذلك لكونه يفي بالغرض سواء على مستوى ما هو نظري أو تقني أو إجرائي عملي.
[49] - Tiberghien, G. Psychologie cognitive…, op.cit., p18.
[50] - Fodor, J.A. L’explication en psychologie, Paris, Seghers, 1972, p86-87.
[51] - بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء، بحث في خصائص العقلية العلمية، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1999، ص253.
[52] - Richard, J.F. De la psychologie générale à la psychologie cognitive. In Ghiglione et Richard (dir), Cours de psychologie, T1, Paris, Dunod, 1992, p159.
[53] - Richard, J.F. Ibid, p161.
[54] - Richard, J.F. Ibid, p162.
[55] - Richard, J.F. Ibid, p163.
[56] - Parot, F. Et all. Introduction à la psychologie, op.cit., p374.
[57] - Scheerer, E. Esquisse d’une histoire…, op.cit., p10.
[58] - Fayot, M. Psychologie cognitive et instruction. In Monteil et Fayol (dir). La psychologie scientifique…, op.cit., p127.
[59] - Bresson, F. La psychologie cognitive demain…, op.cit., p89.
[60] - Le NY, J.F. Psychologie cognitive et psychologie de l’affectivité. In Fraisse (dir) psychologie de demain, Paris, PUF, 1982, p101.
[61] - Le NY, JF, Ibid, p105.
[62] - Parot, F. et al. Introduction à la psychologie, op.cit., p221.
[63] - فتحي الزيات، سيكولوجية التعلم، مرجع سابق، ص397.
[64]- Le NY, J.F. Psychologie cognitive et psychologie de l’affectivité, op.cit., p105.
[65] - Le NY, JF, Ibid, p106.
[66] - آلان بونيه، الذكاء الاصطناعي، واقعه ومستقبله، ترجمة علي فرغلي، الكويت، عالم المعرفة، 1993، ص23.
[67] - Tiberghien, G. Psychologie cognitive…, op.cit., p14.
[68] - Nguyen-Xuan, A. Modèle de fonctionnement en psychologie. In Ghiglione (dir) Comprendre l’homme, construire des modèles, Paris CNRS, 1985, p96.
[69] - Sfez, L. Critique de la communication, op.cit., p396.
[70] - Grand dictionnaire de la psychologie, Paris, Larousse, 1991, p140.
[71] - Andler, D. Le développement des sciences cognitives, op.cit., p169.
[72] - Bresson, F. La psychologie cognitive demain, op.cit., p85-86.
[73] - Mehler, J et Dupoux, E. De la psychologie à la science…, op.cit., p67.
[74] - Parot, F et al. Introduction à la psychologie, op.cit., p374.
[75] - Le NY, JF. La psychologie est durablement duale, Bulletin de psychologie, n°440, 1999, p277.
[76] - Grand dictionnaire de la psychologie, p140.
[77] - Johnson-Laird, P.N, Modèles, mentaux en sciences cognitive, Bulletin de psychologie, n°383, 1987, p61.
[78] - Matalon, B. Décrire, expliquer et prévoir, Paris, A.Colin, 1988, p13.
[79] - Dennett, D. La conscience expliquée, Paris, Ed. Odile Jacob, 1993, p321.
[80] - Le NY, J.F, Science cognitive et compréhension…, op.cit., p30.
[81] - البعزاتي بناصر، الاستدلال: مستويات في القوة…، مرجع سابق، ص25-26.
[82] - Tête, A. Entre neurosciences et psychologie cognitive : une frontière en question, Revue de synthèse, n°3-4, 1994, p489.
[83] - Le NY, JF, La psychologie est durablement duale, op.cit., p277.
[84] - فتحي الزيات، سيكولوجية التعلم، مرجع سابق، ص91.
[85] - Le cerveau et la pensée, Ed. Sciences humaines, op.cit., p203.
[86] - Le cerveau…, Ibid, p203.
[87] - Sperber, D. Les sciences cognitives…, op. Cit., p107.
[88] - فتحي الزيات، سيكولوجية التعلم، مرجع سابق، ص37.
[89] - Parot, F et al. Introduction à la psychologie…, op.cit., p221.
[90] - Scheerer, E. Esquisse d’une histoire…, op.cit., p10.
[91] - Scheerer, E. Idem.
[92] - Richard, J.F. De la psychologie générale à la psychologie cognitive, op.cit., p159.
[93] - Le NY, JF. Psychologie cognitive et psychologie de l’affectivité, op.cit., p107.
[94] - Parot, F et al. Introduction à la psychologie, op.cit., p220.
[95] - Parot, F et al. Idem.
[96] - Imbert, M. Les neurosciences cognitives, op.cit., p86.
[97] - Le NY, JF, Psychologie cognitive…, op.cit., p108.
[98] - Grand dictionnaire de psychologie, p136.
[99] - Lonescu, S. Approches de la psychologie, In Ghiglione et al (dir) cours de psychologie, T6, Paris, Dunod, 1995, p447-48.
[100] - Encyclopédie Universalis, vol. 18, 1974, p411.
[101] - نادية محمود شريف، الأساليب المعرفية الإدراكية وعلاقتها بمفهوم التمايز النفسي، مجلة عالم الفكر، عدد 2، مجلد 13، 1982، ص109.
[102] - Le NY, JF, Idem. P108.
[103] - Grand dictionnaire de psychologie, p139.
[104]- Mehler, J. Et Dupoux, E. De la psychologie à la science cognitive, op.cit., p82.
[105] - Mehler, et al. Ibid, p82-83.
[106] - Mehler, et al. Ibid, p82.
[107] - Bonnet, C-Ghiglione, R et Richard, J.F, Traité de psychologie cognitive, T3, Paris, Dunod, 1990.
[108] - Leyens, JP et Beauvois, J.L. L’ère de la cognition, Grenoble, PUG, 1997.
[109] - Bonnet, C et al. Traité de psychologie cognitive, op.cit.
[110] - نادية شريف، الأساليب المعرفية الإدراكية…، مرجع سابق، ص109.
[111] - Tête, A. Entre neurosciences et psychologie…, op.cit., p489.
[112] - Sperber, D. Les sciences cognitives…, op.cit., p108.
[113] - Andler, D. Sciences cognitives, Encyclopédie Universalis, op.cit., p66-67.
[114] - Andler, D. Ibidem.
[115] - Parot, F. Les territoires de la psychologie, Revue synthèse, n°3-4, 1994, p324.
رد: علم النفس المعرفي قضايا النشأة والمفهوم
اشكرك اخي مصطفى على هذا الطرح الرائع
وهذا ليس بغريب عنك
فأنت المبدع دائماً
وهذا ليس بغريب عنك
فأنت المبدع دائماً
نور القمر- عدد الرسائل : 81
العمر : 42
تاريخ التسجيل : 16/11/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى