الإسلام والحضارة: رؤية محايدة
صفحة 1 من اصل 1
الإسلام والحضارة: رؤية محايدة
الإســلام والحضــارة
رؤيـة محايـدة
دكتور حسني إبراهيم عبد العظيم
عضو هيئة التدريس – قسم علم الاجتماع – كلية الآداب
جامعة بني سويف – ج.م.ع
]رؤيـة محايـدة
دكتور حسني إبراهيم عبد العظيم
عضو هيئة التدريس – قسم علم الاجتماع – كلية الآداب
جامعة بني سويف – ج.م.ع
تمهيد:
لا يهدف هذا البحث الموجزة إلى الانتصـار للإســلام على حســاب العقائد الأخرى، كما أنه لا يقصد التقليل من شأن الديانة المسـيحية أو النيل من معتقداتها، فالعقيــــدة المسـيحية جديرة باحترامنا، رغم اختلافنا الواضح معها، ومن حق المسيحي – مثل المسلم تماما – أن يؤمن بعقيدته ويعتـز بها، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم, ومن حقــه أيضا أن يمارس شعائره جهارا نهارا بكل حرية وطمأنينة.إن كل إنسان مسئول أمام الله عما يعتقد، وليس من حق أحد أن يحاسب الآخرين عما يعتقدون، فليعتقد كل منا ما يشاء، وبجانب ذلك فليحترم كل منا الآخر انطلاقا من الأخوة الإنسانية، كما جاء في القرآن الكريم : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) سورة النساء 1
وقال أيضا:(يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله تواب رحيم) سورة الحجرات 13.
إن هدف البحث بوضـوح هو رصــد بعض الاختلافات في الرؤى بين الديانتين، تلك الاختلافات التي جعلت الإســلام يؤسس حضــارة إنسـانية عالميـة، في حين لم توفق المسيحية في ذلك.وتحريا للموضـوعية والتجرد لم يرجع الكاتب في تحقيق هــدف البحث إلى المفكرين المسلمين فقط، وإنما اسـتند إلى شهادات كتاب وفلاسـفة مسيحيين مرموقين أيضا، وفي كل ذلك رد موضوعي هادئ على كل الذين يهاجمون الإسلام ليلا ونهارا.
1 - في مفهوم الحضارة:
الحضارة Civilization كما يعرفها قاموس علم الاجتماع هي مرحلة أو حالة متقدمة من الحياة الاجتماعية والتطور الاجتماعي المنظم، وغالبا ما يسـتخدم المصطلح للتمييز بين المجتمعات المتحضرة والمجتمعات البدائية البسيطة.(1)
فالحضارة تشير إلى ثقافة Culture معقدة إلى حد كبير، في مقابل الثقافة البسـيطة نسبيا، واعتبر العلماء أن وجود المدن وتقسيم العمل المعقد والتكنولوجيا المتقدمة مؤشرات على الحضارة، كما أنهم أوضحوا أن الحضـارة هي ثقافة طورت الكتابة، وقامت باستئناس الحيوان، وكونت مجتمعا يقوم على مركب زراعي ثابت ومستقر.(2)
من الواضح أن ثمة تماس بين بين مفهومي الثقافة والحضـارة، ويظن كثير من الناس أنهما من قبيل المترادفات (3)، بيد أن الحقيقة أن هناك فروقا دقيقة بين المفهومين يكشــفها التراث السوسيولوجي والأنثروبولوجي.
إن الاستخدام الأنثروبولوجي (والسوسيولوجي كذلك) لكلمة الثقافة يعني الأسلوب العام لحياة جماعة أو مجتمع معين في مكان وزمان محددين، ويندرج تحت مقولــة الأسـلوب العام كل ما يرتبط من الحياة الاجتماعية أو الفردية بالبيئة الاجتماعية – لا بالوراثة – كاللغة والعادات والمعتقدات والطقوس وآداب السلوك.(4) إن الثقافة ببسـاطة تشير بشكل عام إلى كل ما أبدعه الإنسان من خلال تفاعله الخلاق مع الواقع المحيط به.
أما الحضارة فتشير إلى المظهر الثقافي المتقدم لدى شـعب من الشعوب، والذي تحدد درجة تقدمه مجموعة من الإنجازات في مجالات العلوم والآداب والفنون، والنظم الاجتماعية والسياسية. وبينما تنشأ الحضارات الإنسانية وتتطور وتزدهر لدى شــعب معين في فترة زمنية معينة من تاريخه، إلا أنها معرضة للتدهور والاندثار، كما حدث للحضـارة المصرية القديمة، والحضارتين اليونانية والإسلامية. ذلك عل عكس ثقافات الشــعوب أوالمجتمعات المختلفة ، فهي وإن تغيرت عبر الزمن ، إلا أنها تتصف – رغم ذلك - بالاسـتمرارية، إذ لابد في النهاية من أن يوجد نمط معين للحياة يهتدي به الناس في مزاولة حياتهم اليوميـة سواء أكانت بسيطة أم معقدة، وعليه إذن وعلى حد تعبير جوزيف شـريم في مقاله الثقافة والثقافة المضادة :"لا يفتقر الشعب - أي شعب – إلى الثقافة، ولا يفتقر الإنســان – أي إنسان – إلى الثقافة، ولكن الشعوب ليست بالضرورة كلها متحضرة".(5)
يتضح مما سبق أن الثقافة تشــير إلى كل ما أبدعه الإنســان منذ بدء وجوده على الأرض، واتـمت هذه الإبداعات بالبساطة، والبدائية، وعندما تطورت قدرات الإنسان البدنية والعقلية واسـتطاع أن يسـتقر في مكان محدد ، واخترع الكتابة وتعلم الحساب وتمكن من الزراعة واستئناس الحيوان أسس الحضارة ، ولذلك يشير علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والآثار إلى (ثقافـات) ماقبل التاريخ، و(الحضـارات) التاريخية القديمة في مصر والعراق والهند والصين والشام . . . إلخ.
2 – الإسلام والحضارة
لا تؤدي نشأة الدين بالضرورة إلى قيام حضــارة، فقد يظهر دين في أمة معينة وتظل مسيرة التاريخ دون منعطف جوهري، كما حدث في الديانتين البوذية واليهوديــة، بل وقد تنهار الحضارة بعد انتشار الدين، مثلما حمل بعض مؤرخي الحضـــارة الرومانية – مثل إدوارد جيبون E. Gibbon (1737 – 1794) الديانة المســيحية مســئولية تدهور الحضارة الرومانية.(6)
يرى جيبون في كتابه الشهير اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطهاDecline and fall of the Roman empire أن السبب الأساسي لسقوط روما هو انتشار المسـيحية، وغارات القوط الشماليين ،ويشرح ذلك قائلا إن المسيحية تعد نزول الإنسان على الأرض عقوبة على خطيئة آدم، ومن ثم فإن المثل الأعلى يكمن في حياة الرهبنة، ومن ناحية أخرى كان من عوامل حماس الرومــان الدفاع عن آلهتهم التي ترمز إلى بلادهم، ومن ثم كانت الدولة الرومانية قوية حين كانت وثنية، بينما توالت هزائمها أمام غارات القوط الشماليين بعد أن اعتنقت المسيحية.(7)
ويرجع جيبون بهذه المناسبة أسباب انتشار المسـيحية إلى مسـائل نفسية وفلسفية، متعلقة بوجود الفكرة والتعصب لها والاستعلاء بها، وقيام هذه الفكرة على الإيمان بالخلود الأمر الذي ساعد المسيحيين على تجاوز الاضطهادات والصمــود المعنوي، ويطالبنا بأن نسقط السبب الغيبي الذي يقول إن انتصار المسيحية كان لأن الله أراد لدينه الانتصار على الوثنية، فالباحث المدقق لابد أن يرفض هذا الزعم، ذلك لأن المسيحية التي انتصرت كانت تشويها لفكر مبدعها وتحريفا لتعاليمه، ولقد أرادها بصورة ، وأرادتها الكنيسة بصــورة أخرى.(8)
الخلاصة إذن أنه ليس هناك تلازم ضروري - كما يؤكد فلاسفة الحضارة – بين انتشار الدين وقيام الحضارة، إلا أن الصورة فيما يتعلق بالإســلام مغايرة تماما،حيث ثمة ارتباط سـببي بين ظهور الإســلام قيام الحضارة، فما كان يمكن قيام حضارة في شبه الجزيرة العربية آنذاك لولا ظهور الإسلام، فما تلك المقومات الموجودة في الإسلام التي أدت إلى قيام حضارة؟
• العقيدة أساس الحضارة
يمثل التوحيد في التصور الإسلامي ذروة ما بلغته البشرية في مسيرتها بصدد تطور العقيدة، فهو لم يخلص العرب من الوثنية فحسب، وإنما عدل تعديلا جوهريا في التصورين اليهودي والمسيحي بصدد الألوهية: الاعتقاد اليهودي في إله يستوي مع البشر في صفاته الجسمية والنفسية بما يعرف بالتشبيه والتجسـيم، والتصـور المسـيحي الذي يضفي الألوهية على إنسان. جاء الإسلام وسطا بين التصورين، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (البقرة 143) ومع ارتقاء الاعتقاد كان لابد أن يرتقي فكر الإنسان، ومن ثم ترتقي الحضارة.(9)
إن جوهر التوحيد وفق التصور الإسلامي يعني الإيمان بالله : الإيمان بأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه، لكونه خالق العباد والمحسن إليهم والقائم بأرزاقهم والعالم بسرهم وعلانيتهم ، والقادر على إثابة مطيعهم وعقاب عاصيهم ، ولهذه العبادة خلق الله الثقلين كما قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أٌريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون* إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين { [ الذاريات : 56-58] . وقال أيضا: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون* الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون { [ البقرة : 21-22] .
وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا الحق والدعوة إليه ، والتحذير مما يضاده كما قال سبحانه { ولقد بعثنا في كل أٌمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت{ [النحل : 36] وقال { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون { [ الأنبياء : 25 ] .وقال كذلك { كتاب أٌحكمت آياتُه ثم فصلت من لدُن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إني لكم منهُ نذيرُُ وبشيرُُ { [ هود : 1-2 ] .
جاء الإســلام – إذن - بعقيـدة جديدة، يجتمع إليها العقل والقلب جميعا، تصحح ما تردى فيه الناس من أخطاء في فهم الرسالات والعقائد السابقة، كان الناس بحاجة إلى دين يؤكد وجود الله، وأنه خالق الخلق، و أنه الكامل المتفرد بالكمـال، بيده الأمـر وهوعلى كل شيئ قدير، ويؤكد على وحدانية الله وتنزيهه توكيدا يقضي على عقابيل التعـدد في تصور الإله، حتى لا ينزلق الناس إلى التجسيم الذي طالما وقعوا فيه بعد كل دعوة للتوحيد بســبب غلبة الحس عليهم.(10)
وهكذا يؤسس الإسلام قواعد العقيدة الصحيحة التي تمثل حجر الأساس لحياة الإنسان في الأرض ، لكي يكون خليفة لله ، يعبده فيها ويعمرها ، ويؤسس فيها ما يشـــاء من نظم اجتماعية وسياســـية واقتصادية. وبذلك تقوم الحضارة، وهذا ما سوف نكشف عنه في العنصر التالي.
• وجود الإنسان على الأرض لإعمارها وليس عقوبة على خطيئة
قدم الإسلام تصورا مغايرا للمسيحية سـواء بصدد فلسفة الحياة على الأرض أم بصدد المثل الأعلى للإنسان، فلم يكن نزول آدم إلى الأرض عقوبة على خطيئة، وإنما ليكون خليفة في الأرض دون الملائكـة،:"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" ســـورة البقرة 30، ورفض الإسلام حياة الرهبنة، ليستبدل بها عمارة الأرض:" هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها" سورة هود 61, فالمثل الأعلى للمسلم هو العالم العامل بعد أن كان الراهب الناسك.(11)
رفض الإسلام عقيدة الخطيئة الأولى ، واعتبرها فكرة غير عادلة، فكيف يحاسب الأبناء على خطأ ارتكبه أبوهم، وكيف لله بجلاله وعظمته أن ينزل من عليائه ويجعل نفسه ندا لآدم ذلك المخلوق الضعيف ، ألا يملك بجلالـه وعفوه ورحمته ومغفرته أن يسامح ذلك المخلوق بكلمة واحدة؟
إن آدم ( القرآني) هو الإنسان الذي أخطأ بعصيان الأمر الإلهي، ثم أدرك خطأه وتاب أمام الله بمعونة من الله:( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة 37 فليس ثمة نقمة إلهية تجاه البشر،وليس ثمة خطية أزلية ارتكبها آدم وورثها بنوه من بعده؛ لأن ذرية آدم من عموم البشر، لم يشهدوا الخلق الأول ولم يعصوا الأمر الإلهي، ومن ثم لاتجوز محاسبتهم على ما لم يرتكبوه، حسبما تنص الآية القرآنية:( ولا تزر وازرة وزر أخرى) سورة الأنعام 164،وسورة الإسراء 15،وسورة فاطر 18، وسورة الزمر 7. (12)
يعلق المفكر المسـيحي الدكتـور نظمي لوقا(1920 – 1987) على فكرة الخطيئة الأصلية قائلا:"وقف الإنســان بعد اليهودية والمسيحية موقفا لايحسد عليه كثيرا بسبب ما التصق به من وزر ابيه آدم، ذلك الوزر الذي اعتبر خطيئة أولى، باقيـة وموروثة، لابد لها من كفارة وفداء حتى لايذهب بجريرتها أبنـاء الجنس البشري كافة. . .ولا أنسى ما ركبني صغيرا من الفزع والهول من جراء تلك الخطيئة الأولى وما ســيقت فيه من سياق مروع . . . وأنه لولا النجاة على يد المسـيح الذى فدى البشر بدمه الطهور لكان مصير البشرية كلها الهلاك المبين، ولا أنسى القلق الذي ســاورني وشغل خاطري عن ملايين البشر قبل المســـيح، أين هم؟ وما ذنبهم لكي يهلكوا بغير فرصة للنجاة؟ كان لابد والصورة هكذا – يواصل لوقا – من عقيدة ترفع عن كاهل البشر هذه اللعنة وتطمئنهم إلى العدالةالتي لا تأخذ البرئ بالمجرم، أو تزر الولد بوزر الوالد، وتجعل للبشرية كرامة مضمونة.(13)
إن خلافة الإنسان على الأرض تعني – وفق التصور الإسلامي - أمرين:
الأول: المكانة المرموقة للإنســان الذي اجتمعت فيــه على حد تعبير ابن عربي (كمالات الوجـــود كلها الروحية والفكرية والمادية، بما لم يجتمع لمخـلوق آخر حتى الملائكة) ، الثاني: أن الخلافة تقتضي أن يفوض الإله – بمشـيئته المطلقة – للإنسان الحرية من أجل عمارة الأرض، بعد أن علمه – دون سائر ملائكته – الأسماء كلها ، وبالعلم اكتشف الإنسان الكون، وهكذا أشـــاع الإسلام نظرة للحياة متفائلة، بديلا عن التصور اللازم عن الخطيئة الأصلية في المسيحية.(14)
يقول الدكتور نظمي لوقا معلقا على أهمية التصور الإسـلامي المتفائل للحياة البديل عن فكرة الخطيئة الأصلية :" والحق أنه لا يمكن أن يقدر قيمة عقيـدة خالية من أعباء الخطيئة الأولى الموروثة، إلا من نشأ في ظل تلك الفكرة القاتمة، التي تصـبغ كل أفعال الفرد بصبغة الخجل والتأثم، فيمضي في حياته مضي المريب المتردد، ولا يقبل عليها إقبال الواثق، بسبب ما أنقض ظهره من الوزر الموروث.إن تلك الفكرة تسـمم ينابيع الحياة كلها ، ورفعها عن كاهل الإنسانية منة عظمى، إنها بمثابة نفخ نـمة حياة جديدة فيه، بل هو ولادة جديدة حقا، ورد اعتبار لا شك فيه، إنه تمزيق صحيفة السوابق، ووضع زمام كل إنسان بيد نفسه"(15)
ويقول متابعا في موضع آخر:"ليست الحياة الدنيا في الإسلام رجسا ، بل هي من ملك الله وطيباته، فالله هو صاحب الدنيا كما هو صـاحب الآخرة، وهو خالق الحس بما يفرضه من دوافع الحياة ومطالبها، وهو فاطر طلبها في النفس . .. وإنما هي الحدود الشرعية يفرضها الله في دينه، فإن السعي في سبيل الدنيا على سنن تلك الحـدود، يمسي تحصيلا للمثوبة في الآخرة بالطاعة والإحسان". (16)
لقد كان الإسلام ثورة عالمية عقيدية واقتصادية واجتماعية، وفكرية أيضا، وكان من البديهي أن يأتي بتصورللحياة و للتاريخ البشري في ماضيه وحاضره ومستقبله، وبمعنى آخر اكتسب الوجود الإنساني قيمة أفضل مما انطوت عليه اليهودية بنزعنها العنصرية الضـــيقة، والمسيحية التي ترى في الحياة الدنيا قنطرة عبور للأخرة ليس إلا.(17)
وليس أدل على تبجيل الإسلام للواقع الإنساني المعيش، من اعتبار السلوك البشري إبان الحياة الدنيا هو المدخل الأساسي للحياة الأخرى، قال تعالى ": ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" سورة الزلزلة 7 -8 ، كذا دعوته الصريحة لإعمال العقل في تدبيرشئون الخلق دون حدود،(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) سورة العنكبوت 20 هذا فضلا عن تحديد مسئولية البشر وحرية إرادتهم فيما يصنعون، بحيث يصبح التاريخ الإنساني من صنع الإنسان، وبالتالي إبراز قدرة الإنسان على صنع مصيره دون أن يتعارض ذلك مع قدرة الله على الخلق.(18)
هكذا كانت نظرة الإسلام للحياة على الأرض بأنها ليست عقوبة على جـريمة، مع مـا يرتبط بمفهوم العقوبة من قسوة وضيق وكآبة، وإنما الحياة على الأرض مليئة بالغبطة والسـعادة في حدود المنهج الإســلامي الإنساني، ولكي تكتمل السعادة في الحياة الدنيا لابد أن يزود الإنسـان بالملكات والقدرات التي تؤهله للعيش والتفاعل والإنجاز وأهم تلك الملكات العقل.
• العقل مناط التكليف والتشريف أيضا
لقد جعل الإســلام العقل للدين أصلا، وللدنيا عمادا، فعلق الدين الصحيح على كمال العقل، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، حتى أصبح العقل في الإســلام ينبوع الفضائل والآداب، ولولا ما جاء في القرآن الكريم والحـديث الشـريف من حض على التفكير والعلم لما رأينا هنـاك فرقـا تدعو إلى الاعتمـاد على العقل في تدبير الحياة الإنسـانيـة كالمعتزلة، الذين قالوا بالتوحيـد والعـدل، والوعـد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذهبـوا إلى أن العقل نور في القلب يعرف الحـق من الباطل، والخير من الشر، والحسن من القبيح.وكعلماء الكلام الذين سلموا أولا بصحة العقائد تسليم مؤمن بها من الشرع، ثم حاولوا دعمها بالأدلة العقلية.(19)
إن الإنسان في التصور الإسلامي كائن مكلف (بفتح اللام)استخلفه الله لتعمير الأرض، وزوده بكل الإمكانيات التي تســاعده على القيام بهذه المهمةوتيسرها له، فمنحه العقل ليميز بين الخير والشر، ومنحه قبل ذلك القدرة والاستطاعة ليتمكن من تنفيذ أوامر الله ومن اجتناب نواهيه، والعقل بدون القدرة والاستطاعة لا فاعلية له، لأنه يحتاج إلى القدرة على الفعل لكي يتوصل للمعرفة، وقدرة العقل على الفعل ليست إلا قدرته على الاستدلال والانتقال من مستوى المعرفة البهية إلى مستويات معرفية أعقد عن طريق القياس والنظر في الأدلة، هذا النظر في الأدلة فعل ذهني لا يتحقق إلا بالاستطاعة والقدرة، وهذا ما يعبر عنه الجاحظ بقوله:"إن الفرق بين الإنسان والبهيمة والإنسان والسبع والحشرة، والذي سير الإنسان إلى استحقاق قوله تعالى (وسخر لكم ما في السوات وما في الأرض جميعا منه) (الجاثية 13) ليس هو الصورة، وأنه خلق من نطفة، وأ أباه خلق من تراب، ولا أنه يمشي على رجلية، ويتناول حوائجه بيديه، لأن هذه الخصال مجموعة في البله والمجانين، والأطفال والمنقوصين، والفرق إنما هو في الاستطاعة والتمكين، وفي وجود الاستطاعة وجود للعقل والمعرفة.(20)
إن العقل في نظر علماء الكلام والفلاسفة المسلمين هو الوسيلة التي يتعرف بها الإنسان على الكون من حوله، وهو الوسيلة التي يعقل بها الأشياء ، فيتأمل هذا العالم الظاهر بجزئياته المتعددة، وعن طريق هذا التأمل والتفكر يصل إلى ما في بناء العالم من نظام، وإلى ما وراءه من حكمة، ويصل من ثم إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، وأنه مفارق لكل صفات هذا العالم ومنزه عنها، وهذه المعرفة العقلية تصل إلى ضرورة شكر المنعم المتفضل بطريقة ما.هذا تصور المعتزلة والفلاسفة لحركة العقل المعرفية في تصاعدها من جزءيات العالم المدرك الحسي وصولا إلى الكليات العقلية والمفاهيم المجردة، ولا تكتمل جوانب المعرفة إلا بالعمل الذي يتطلب القدرة والاستطاعة، وينتهي بالإنسان إلى النجاة من العقاب والفوز بالنعيم الدائم في جنات الخلد عند المعتزلة، أو في خلود النفس عند الفلاسفة. هكذا وصل حي بن يقظان عند ابن طفيل للمعرفة والعمل بعقله المجرد، وتأمله الخالص دون أن يعرف لغة من اللغات أو يتواصل مع غيره من البشر بأية وسيلة من وسائل الاتصال. وهكذا يتصور المعتزلة أن التكليف العقلي سابق على التكليف الشرعي، وأن المعرفة العقلية شرط لفهم الشرع، وهو ما عبروا عنه بأسبقية العقل على النقل. (21)
وقد لفت القرآن الكريم في آيات كثيرة نظر المسلم إلى ظواهر الكون طالبا منه النظر والتدبر:(الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) و(واعتبروا يا أولي الأبصار) و (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) و ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) والنظر يؤدي للعلم ، وبالعلم تنشأ الحضارات.
• الانجازالفعلي للحضارة
بعد كل ذلك آثار الإسلام كل ما يستثير همة المسلم ويفجر طاقاته؛ ليتوفر تحد كاف لإثارة مواهبه وقدراته، إذ لا تتقدم الحضارة إلا استجابة من الإنسان لتحد يستثير الهمم ويفجر الطاقات الروحية والفكرية والمادية فيه.
هكذا بعد أن كرم الله الإنسان وفضله على كثير من خلقه بالعقل ، وبعد أن سخر له كل فا في الكون، وجعله خليفة، آثر الإنسان أن يخوض التجربة بنفسه، فحمل ما أبت السموات والأرض والجبال أن تحمله إشفاقا – كناية عن عظم ما أقبل عليه الإنسان – في التصور الإسلامي، كلفه الله بتكاليف عقلية وشــرعية بعد أن منحه الحرية. (22)
فإن أضيف إلى ذلك عوامل جغرافية وأخرى تاريخية، تجمعت بذلك عوامل التحدي والاستثارة، مع أسباب الإيمان والقدوة الحسنة في شخص النبي الكريم – عليه السلام – تتكاتف هذه جميعا لقيام حضارة عقب ظهور الإسلام.
لقد كانت البنية العقيدية والعقلية والأخلاقية للإسلام هي المقومات الأساسية لقيام الحضارة، وما دامت هذه البنية قائمة ، وثابتة، بل ومتطورة حسب ظروف الزمان والمكان، فإن الفرصة قائمة لبعث الحضارة الإسلامية من جديد، وإذا كانت الحضارة الإسلامية قد تأسست مع بدء البعثة المحمدية في العام الحادي عشر من القرن السابع الميلادي (نزل الوحي الكريم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم في عام 611 م)، فربما تكون إرهاصات النهضة الإسلامية الثانية قد بدأت في العام الحادي عشر من هذا القرن (2011) مع ربيع الثورات العربيــــة على الظلم والقهر والاستبداد.
ــــــــــــــــ
المراجع والهوامش:
(1) Turner, B.(ed.)(2006)The Cambridge dictionary of
sociology, Cambridge University press,p.71.
(2)عاطف غيث( محرر ومراجع)(1990) قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ص 58.
(3) استخدم معظم علماء الأنثروبولوجيا الأوائل – في القرن التاسع عشر- مصطلحي الحضارة والثقافة بمعنى واحد، فنجد أن عالم الأنثروبولوجيا البريطاني الكبير(إدوار تايلور) E. Tylor (1832 – 1917) الذي قدم أول تعريف منهجي للثقافة في كتابه المعروف الثقافة البدائية الذي صدر لأول مرة في عام 1869 يقول: إن الثقافة أو الحضارة بالمعنى الإثنوجرافي الواسع هي ذلك الكل المركب الذي يتضمن المعرفة والمعتقدات ، الفن، الأخلاق، القانون، العادات، وكافة القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع. أنظر:
Barnard, D. & Spencer, J.,(1996) Encyclopedia of social and cultural anthropology, Routledge press, London, p.137
(4) حسين فهيم(1986) قصة الأنثروبولوجيا، سلسلة عالم المعرفة، العدد 198، الكويت.ص 18
(5) المرجع السابق.نفس الصفحة.
(6) للتعرف باستفاضة على وجهة نظر جيبون في دور المسيحية في سقوط الإمبراطورية الرومانية راجع الفصلين الخامس عشر والسادس عشر من الجزء الأول من كتاب جيبون اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ترجمة محمد علي أبو درة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الألف كتاب الثانية، 1997.
(7) أحمد محمود صبحي وصفاء عبد السلام(1999) في فلسفة الحضارة (اليونانية – الإسلامية – الغربية) دار النهضة العربية، بيروت، ص 57.
(8) عبد المنعم الحفني(1999 ) موســوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء الأول، الطبعة الثانية، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص 490.
(9) أحمد محمود صبحي وصفاء عبد السلام، مرجع سابق، ص 57
(10) نظمي لوقا(1959) محمد: الرسالة والرسول، الطبعة الثانية، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ص 61.
(11) أحمد محمود صبحي وصفاء عبد السلام، مرجع سابق، ص 57.
(12) يوسف زيدان(2010) اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، الطبعة الثانية، مكتبة الشروق، القاهرة، ص ص 141 - 142
(13) نظمي لوقا، المرجع السابق، ص ص 75 – 76.
(14) أحمد محمود صبحي وصفاء عبد السلام، مرجع سابق، ص 58.
(15) نظمي لوقا، المرجع السابق، ص 78.
(16) المرجع السابق، ص 62.
(17) محمود إسماعيل(2000) سوسيولوجيا الفكر الإسلامي: الجزء الأول طور التكوين،الطبعة السادسة، الانتشار العربي، بيروت، ص 206 - 207
(18) المرجع السابق ، ص207.
(19) جميل صليبا(1989) تاريخ الفلسفة العربية، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، ص 17.
(20) نصر حامد أبو زيد (2001) إشكاليات القراءة وآليات التأويل،الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص ص 54 – 55.
(21) المرجع السابق، ص 56.
(22) أحمد محمود صبحي وصفاء عبد السلام، مرجع سابق، ص 59.
حسني إبراهيم عبد العظيم- عضو مميز
- عدد الرسائل : 14
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 06/07/2011
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى