المفهوم الإسلامي حول الجنسانية الأنثوية الفاعلة
منتدى آفاق الفلسفة و السوسيولوجيا و الأنثروبولوجيا :: منتدى الانثروبولوجيا :: انثروبولوجيا النوع الإجتماعي _الجندر
صفحة 1 من اصل 1
المفهوم الإسلامي حول الجنسانية الأنثوية الفاعلة
المفهوم الإسلامي حول الجنسانية الأنثوية الفاعلة
فاطمة المرنيسي
وظيفة الغرائز
يختلف مفهوم الفرد في المسيحية، باعتباره كائنا ممزقا بصورة تراجيدية بين قطبين ـ الخير والشر، والجسد الروح، والغريزة والعقل ـ اختلافا بينا عن المفهوم الإسلامي. ذلك أن للإسلام نظرية في الغرائز على جانب كبير من التعقيد، تقترب أكثر من مفهوم (اللبيدو الفرويدي). فهو ينظر إلى الغرائز الفطرية بوصفها طاقة. وطاقة الغرائز طاقة خالصة نقية، بمعنى أنها لا تتضمن أية دلالة على القبيح والحسن. إذ إن مسألة القبيح والحسن لا تنبثق إلا حين يؤخذ المصير الاجتماعي للناس بعين بالاعتبار. فالفرد لا يقدر على البقاء إلا ضمن نظام اجتماعي. ولأي نظام اجتماعي مجموعة من القوانين. ومجموعة القوانين هذه تقرر قبح أو حسن استخدامات هذه الغرائز. واستخدام الغرائز، لا الغرائز نفسها، هو الذي يعود بالضر أو النفع على النظام الاجتماعي. لذلك ليس من الضروري في النظام الإسلامي أن يلغي الفرد غرائزه أو يتحكم بها لمجرد التحكم ذاته، بل عليه استخدامها تبعا لما يأمر به الشرع. ليس مراده (محمد ص) فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه وإهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية، إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقا وتتحد الوجهة. إذا ما سخرت العدوانية والرغبة الجنسية، على سبيل المثال، في الاتجاه الصحيح، فإنهما تخدمان أغراض النظام الإسلامي؛ أما إن تعرضتا للكبت أو استخدمتا بصورة خاطئة، فيمكنهما تدمير ذلك النظام: فلم يذم (النبي) (ص) الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان. فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق، وبطل الجهاد وإعلاء كلمة الله. وإنما يذم الغضب للشيطان وللأغراض الذميمة، فإذا كان الغضب في الله ولله كان ممدوحا. .. وكذا ذم الشهوات أيضا ليس المراد إبطالها بالكلية فإن من بطلت شهوته كان نقصا في حقه، وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبدا متصرفا طوع الأوامر الإلهية. في كتاب (إحياء علوم الدين)، يقدم الإمام الغزالي وصفا تفصيليا لكيفية قيام الإسلام بدمج الغريزة الجنسية في النظام الاجتماعي ليتكاملا معا بما يرضي الله. فهو يبدأ بالتوكيد على التناقض بين الرغبة الجنسية والنظام الاجتماعي: (.. فإن الشهوة إذا غلبت ولم تقاومها قوة التقوى جرّت إلى اقتحام الفواحش)، أما إذا استخدمت تبعا لإرادة الله، فإن رغبة الجسد تلبي أمره وتحقق مصلحة الفرد في الدنيا والآخرة؛ فهي تعزز الحياة على الأرض وتزينها في السماء. إذ إن من مقاصد الله في الأرض ضمان استمرارية جنس الإنسان، والرغبات الجنسية تخدم هذا القصد: وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة كالموكل بالفحل في إخراج البذر، وبالأنثى في التمكين من الحرث، تلطفا بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع، كالتلطف بالطير في بث الحب الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة. لقد خلق الله الجنسين، وزود كلا منهما بهيئة تكوينية تشريحية محددة تسمح له بتكميل الآخر لتحقيق مقصد الخالق. والله تعالى خلق الزوجين، وخلق الذكر والأنثيين، وخلق النطفة في الفقار (كان من المعتقد أن الكلية هي الغدة التي تنتج النطف)وهيأ لها في الأنثيين عروقا ومجاري، وخلق الرحم قرارا ومستودعا للنطفة، وسلط متقاضي الشهوة على كل واحد من الذكر والأنثى. فهذه الأفعال والآلات تشهد بلسان ذلق في الإعراب عن مراد خالقها، وتنادي أرباب الألباب بتصرف ما أعدت له. هذا إن لم يصرح به الخالق تعالى على لسان رسوله (عليه الصلاة والسلام) بالمراد حيث قال (تناكحوا تناسلوا)، فكيف وقد صرح بالأمر وباح بالسر؟ فكل ممتنع عن النكاح يعرض عن الحراثة مضيع للبذر معطل لما خلق الله من الآلات المعدة. والرغبة الجنسية التي تحقق قصد الله على الأرض، تحقق مقصده في السماء أيضا: .. في الشهوة حكمة أخرى سوى الإرهاق إلى الإيلاد، وهو ما في قضائها من اللذة الي لا توازيها لذة لو دامت، فهي منبهة على اللذات الموعودة في الجنان، إذ الترغيب في لذة لم يجد لها ذواقا لا ينفع.. فإن هذه اللذة الناقصة بسرعة الانصرام تحرك الرغبة في اللذة الكاملة بلذة الدوام، فيستحث على العبادة الموصلة إليها، فيستفيد العبد بشدة الرغبة فيها تيسر المواظبة على ما يوصله إلى نعيم الجنان. ونتيجة للطبيعة المزدوجة للرغبة الجنسية (الأرضية والسماوية)، وأهميتها التكتيكية في الاستراتيجية الربانية، فإن تنظيمها ينبغي أن يكون إلهيا أيضا. ووفقا للمصلحة الإلهية، كان تنظيم الغريزة الجنسية من أهم الوسائل الرئيسية التي استخدمها النبي على الأرض لتطبيق النظام الاجتماعي الجديد في الجزيرة العربية الوثنية (والجاهلية) حينذاك.
الجنسانية الأنثوية: فاعلة أم منفعلة؟
تبعا لـ(جورج مردوك)، تنقسم المجتمعات البشرية إلى مجموعتين اثنتين فيما يتعلق بالطريقة التي تنظم فيها الغريزة الجنسية. المجموعة الأولى تفرض احترام القواعد الجنسية عبر (تذويت المحظورات (جعلها جزءا من الذات)من خلال عملية التهيئة الاجتماعية). أما الثانية فتفرض ذلك الاحترام بواسطة (إجراءات احترازية برانية، مثل قواعد تجنب وتفادي المحرمات)، لأن هذه المجتمعات تخفق في (تذويت) المحظورات الجنسية داخل أفرادها. وفي رأي (مردوك)، تنتمي المجتمعات الغربية إلى المجموعة الأولى في حين تنتمي المجتمعات التي تتبنى نظام الحجاب إلى الثانية. من الواضح أن مجتمعاتنا تنتمي إلى الصنف الأول، فنحن نطبع أعرافنا الجنسية في ضمائر الأفراد بحيث نشعر بأمان تام في الوثوق بروادعنا (الجوانية).. نحن نمنح النساء حدا أعلى من الحرية الشخصية، لمعرفتنا بأن القواعد الأخلاقية المدمجة في الذات فيما يتصل بالعفة قبل الزواج والإخلاص بعده سوف تكون كافية في العادة لمنع إساءة استخدامهن للحرية عن طريق الفسوق أو الزنا كلما سنحت الفرصة المناسبة. أما مجتمعات النمط الآخر.. فتحاول الحفاظ على عفة نسائها قبل الزواج عن طريق عزل الفتيات أو تكليف نسوة مسنات بمرافقتهن أو اللجوء إلى غير ذلك من الوسائل (البرانية) كالحجاب، أو العزل في مخادع (الحريم)، أو المراقبة المستمرة. على أية حال، أعتقد أن الفرق بين هذين النوعين من المجتمعات لا يكمن في آليات التذويت المستخدمة، بل في مفهومها عن الجنسانية الأنثوية. ففي المجتمعات التي يسودها عزل ومراقبة النساء، يكون المفهوم الضمني لجنسانية المرأة فاعلا؛ أما في المجتمعات التي لا يوجد فيها مثل أساليب المراقبة والإكراه هذه، فإن مفهوم جنسانية المرأة يكون منفعلا. في محاولة قاسم أمين لفهم المنطق الكامن وراء عزل وتحجيب النساء والقواعد المؤسسة للفصل بين الجنسين، توصل الكاتب المسلم المنادي بتحرير المرأة إلى نتيجة مفادها أن النساء أكثر قدرة من الرجال على السيطرة على دوافعهن الجنسية، وأن الفصل بين الجنسين هو بالتالي وسيلة لحماية الرجال لا النساء. ابتدأ قاسم أمين بالسؤال حول أي من الجنسين في هذه المجتمعات يخاف الآخر، ومم يخاف. وحين لاحظ أن النساء لا يرغبن بالعزلة كثيرا ويخضعن لها بسبب إجبارهن عليها فقط، استنتج أن ما يخاف منه هو الفتنة أو الاضطراب والفوضى والتشوش (تعني الفتنة أيضا المرأة الجميلة ـ في دلالة تشير إلى المرأة المغوية التي تجعل الرجال يفقدون السيطرة على أنفسهم. يمكن تفسير الفتنة تبعا لاستخدام قاسم أمين للفظة باعتبارها فوضى تبدؤها المرأة ويستفزها الاضطراب الجنسي). ثم سأل من هو المقصود بالحماية من عزل المرأة. عجبا! لم لم تؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟ هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة واعتبر الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والتحكم على هواه؟ واعتبرت المرأة أقوى منه في كل ذلك حتى أبيح للرجال أن يكشفوا عن وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال. ومنع النساء من كشف وجوههن لأعين الرجال منعا مطلقا خوف أن ينفلت زمام هوى النفس من سلطة عقل الرجل فيسقط في الفتنة بأية امرأة تعرضت له مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخلق؟ إن زعم زاعم صحة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافا منه بأن المرأة أكمل استعدادا من الرجل ـ فلم توضع حينئذ تحت رقه في كل حال؟ يتصف المجتمع الإسلامي بالتناقض بين ما يمكن أن يسمى بـ(النظرية الصريحة) و(النظرية الضمنية) للجنسانية الأنثوية، وبالتالي بوجود نظرية مزدوجة للديناميات الجنسية الفعالة. تتمثل النظرية الصريحة في الاعتقاد المعاصر السائد الذي يشير إلى أن الرجل عدواني ومندفع في تفاعله المتبادل مع المرأة التي تعتبر سلبية ومستكينة. أما النظرية الضمنية، المتجذرة في عمق اللاوعي الإسلامي، فيوجزها الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين)، حيث يرى المدنية بمثابة صراع لاحتواء سلطة المرأة المدمرة التي تستحوذ على كل شيء. إذ ينبغي السيطرة على النساء للحيلولة دون تشتت انتباه الرجال وانصرافهم عن أداء واجباتهم الاجتماعية والدينية. ولن يتمكن المجتمع من البقاء إلا بإيجاد مؤسسات تعمل لصالح المؤمنين وتعزز وتكرس هيمنة الذكر من خلال الفصل بين الجنسين ونظام تعدد الزوجات. يلخص عباس محمود العقاد النظرية الصريحة للعلاقات بين الجنسين من منظور عدائي محاب لتفوق الرجل. ففي كتابه (المرأة في القرآن) حاول وصف الديناميات الذكرية ـ الأنثوية كما تتبدى في كتاب الله. فقد افتتح كتابه بايراد شاهد من القرآن يؤسس حقيقة قوامة الرجل ((وللرجال عليهن درجة) (البقرة: 228))، ليتابع بسرعة قائلا إن (حكم القرآن بتفضيل الرجل على المرأة هو الحكم البين من تاريخ بني آدم، منذ كانوا قبل نشوء الحضارات والشرائع العامة وبعد نشوئها). ما يجده العقاد في القرآن وفي الحضارة الإنسانية هو تكامل بين الجنسين اعتمادا على تضاد طبيعتهما. فالسمة المميزة للذكر هي إرادة السلطة، إرادة الفتح والإخضاع. أما الخاصة المميزة للأنثى فهي الإرادة السلبية للسلطة، لأن كل طاقاتها موظفة في السعي للخضوع للغلبة. لهذا، فإن (المرأة تتعرض وتنتظر، بينما الرجل يرغب ويسعى). وعلى الرغم من أن العقاد يفتقد عمق ومنهجية المقاربة الفرويدية الاستدلالية المتألقة، إلا أن أفكاره حول الديناميات الذكرية ـ الأنثوية تشابه إلى حد بعيد توكيد فرويد على جانب (قانون الغاب) من الجنسانية. فالتكامل بين الجنسين، تبعا للعقاد، يكمن في التضاد بين ما يملكانه من إرادات، ورغبات وطموحات. لقد منح الذكور في جميع أنواع الحيوانات قوة ـ متجسدة في البنية البيولوجية ـ لإكراه الإناث على الإذعان لمتطلبات الغريزة (الجنس).. وليس هناك حالة منحت فيها هذه القوة للنساء. أما النظرية الضمنية للجنسانية الأنثوية، كما يراها الغزالي انطلاقا من تفسيراته للنص القرآني، فهي تعطي المرأة دور الصياد والرجل دور الضحية المستكينة المستسلمة. إلا أن النظريتين تشتركان في عنصر أساسي هو قوة كيد النساء ((القدرة على خداع وهزيمة الرجال بالمكر والمكيدة، لا بالقوة)). لكن في حين يحاول العقاد ربط قوة كيد الأنثى بتكوينها الضعيف، رمز دونيتها التي قضاها الله، فإن الغزالي يرى قوتها بمثابة العنصر الأشد تدميرا للنظام الاجتماعي الإسلامي، حيث يعتبر الأنثوي مرادفا للشيطاني.
.
فاطمة المرنيسي
وظيفة الغرائز
يختلف مفهوم الفرد في المسيحية، باعتباره كائنا ممزقا بصورة تراجيدية بين قطبين ـ الخير والشر، والجسد الروح، والغريزة والعقل ـ اختلافا بينا عن المفهوم الإسلامي. ذلك أن للإسلام نظرية في الغرائز على جانب كبير من التعقيد، تقترب أكثر من مفهوم (اللبيدو الفرويدي). فهو ينظر إلى الغرائز الفطرية بوصفها طاقة. وطاقة الغرائز طاقة خالصة نقية، بمعنى أنها لا تتضمن أية دلالة على القبيح والحسن. إذ إن مسألة القبيح والحسن لا تنبثق إلا حين يؤخذ المصير الاجتماعي للناس بعين بالاعتبار. فالفرد لا يقدر على البقاء إلا ضمن نظام اجتماعي. ولأي نظام اجتماعي مجموعة من القوانين. ومجموعة القوانين هذه تقرر قبح أو حسن استخدامات هذه الغرائز. واستخدام الغرائز، لا الغرائز نفسها، هو الذي يعود بالضر أو النفع على النظام الاجتماعي. لذلك ليس من الضروري في النظام الإسلامي أن يلغي الفرد غرائزه أو يتحكم بها لمجرد التحكم ذاته، بل عليه استخدامها تبعا لما يأمر به الشرع. ليس مراده (محمد ص) فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه وإهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية، إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقا وتتحد الوجهة. إذا ما سخرت العدوانية والرغبة الجنسية، على سبيل المثال، في الاتجاه الصحيح، فإنهما تخدمان أغراض النظام الإسلامي؛ أما إن تعرضتا للكبت أو استخدمتا بصورة خاطئة، فيمكنهما تدمير ذلك النظام: فلم يذم (النبي) (ص) الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان. فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق، وبطل الجهاد وإعلاء كلمة الله. وإنما يذم الغضب للشيطان وللأغراض الذميمة، فإذا كان الغضب في الله ولله كان ممدوحا. .. وكذا ذم الشهوات أيضا ليس المراد إبطالها بالكلية فإن من بطلت شهوته كان نقصا في حقه، وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبدا متصرفا طوع الأوامر الإلهية. في كتاب (إحياء علوم الدين)، يقدم الإمام الغزالي وصفا تفصيليا لكيفية قيام الإسلام بدمج الغريزة الجنسية في النظام الاجتماعي ليتكاملا معا بما يرضي الله. فهو يبدأ بالتوكيد على التناقض بين الرغبة الجنسية والنظام الاجتماعي: (.. فإن الشهوة إذا غلبت ولم تقاومها قوة التقوى جرّت إلى اقتحام الفواحش)، أما إذا استخدمت تبعا لإرادة الله، فإن رغبة الجسد تلبي أمره وتحقق مصلحة الفرد في الدنيا والآخرة؛ فهي تعزز الحياة على الأرض وتزينها في السماء. إذ إن من مقاصد الله في الأرض ضمان استمرارية جنس الإنسان، والرغبات الجنسية تخدم هذا القصد: وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة كالموكل بالفحل في إخراج البذر، وبالأنثى في التمكين من الحرث، تلطفا بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع، كالتلطف بالطير في بث الحب الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة. لقد خلق الله الجنسين، وزود كلا منهما بهيئة تكوينية تشريحية محددة تسمح له بتكميل الآخر لتحقيق مقصد الخالق. والله تعالى خلق الزوجين، وخلق الذكر والأنثيين، وخلق النطفة في الفقار (كان من المعتقد أن الكلية هي الغدة التي تنتج النطف)وهيأ لها في الأنثيين عروقا ومجاري، وخلق الرحم قرارا ومستودعا للنطفة، وسلط متقاضي الشهوة على كل واحد من الذكر والأنثى. فهذه الأفعال والآلات تشهد بلسان ذلق في الإعراب عن مراد خالقها، وتنادي أرباب الألباب بتصرف ما أعدت له. هذا إن لم يصرح به الخالق تعالى على لسان رسوله (عليه الصلاة والسلام) بالمراد حيث قال (تناكحوا تناسلوا)، فكيف وقد صرح بالأمر وباح بالسر؟ فكل ممتنع عن النكاح يعرض عن الحراثة مضيع للبذر معطل لما خلق الله من الآلات المعدة. والرغبة الجنسية التي تحقق قصد الله على الأرض، تحقق مقصده في السماء أيضا: .. في الشهوة حكمة أخرى سوى الإرهاق إلى الإيلاد، وهو ما في قضائها من اللذة الي لا توازيها لذة لو دامت، فهي منبهة على اللذات الموعودة في الجنان، إذ الترغيب في لذة لم يجد لها ذواقا لا ينفع.. فإن هذه اللذة الناقصة بسرعة الانصرام تحرك الرغبة في اللذة الكاملة بلذة الدوام، فيستحث على العبادة الموصلة إليها، فيستفيد العبد بشدة الرغبة فيها تيسر المواظبة على ما يوصله إلى نعيم الجنان. ونتيجة للطبيعة المزدوجة للرغبة الجنسية (الأرضية والسماوية)، وأهميتها التكتيكية في الاستراتيجية الربانية، فإن تنظيمها ينبغي أن يكون إلهيا أيضا. ووفقا للمصلحة الإلهية، كان تنظيم الغريزة الجنسية من أهم الوسائل الرئيسية التي استخدمها النبي على الأرض لتطبيق النظام الاجتماعي الجديد في الجزيرة العربية الوثنية (والجاهلية) حينذاك.
الجنسانية الأنثوية: فاعلة أم منفعلة؟
تبعا لـ(جورج مردوك)، تنقسم المجتمعات البشرية إلى مجموعتين اثنتين فيما يتعلق بالطريقة التي تنظم فيها الغريزة الجنسية. المجموعة الأولى تفرض احترام القواعد الجنسية عبر (تذويت المحظورات (جعلها جزءا من الذات)من خلال عملية التهيئة الاجتماعية). أما الثانية فتفرض ذلك الاحترام بواسطة (إجراءات احترازية برانية، مثل قواعد تجنب وتفادي المحرمات)، لأن هذه المجتمعات تخفق في (تذويت) المحظورات الجنسية داخل أفرادها. وفي رأي (مردوك)، تنتمي المجتمعات الغربية إلى المجموعة الأولى في حين تنتمي المجتمعات التي تتبنى نظام الحجاب إلى الثانية. من الواضح أن مجتمعاتنا تنتمي إلى الصنف الأول، فنحن نطبع أعرافنا الجنسية في ضمائر الأفراد بحيث نشعر بأمان تام في الوثوق بروادعنا (الجوانية).. نحن نمنح النساء حدا أعلى من الحرية الشخصية، لمعرفتنا بأن القواعد الأخلاقية المدمجة في الذات فيما يتصل بالعفة قبل الزواج والإخلاص بعده سوف تكون كافية في العادة لمنع إساءة استخدامهن للحرية عن طريق الفسوق أو الزنا كلما سنحت الفرصة المناسبة. أما مجتمعات النمط الآخر.. فتحاول الحفاظ على عفة نسائها قبل الزواج عن طريق عزل الفتيات أو تكليف نسوة مسنات بمرافقتهن أو اللجوء إلى غير ذلك من الوسائل (البرانية) كالحجاب، أو العزل في مخادع (الحريم)، أو المراقبة المستمرة. على أية حال، أعتقد أن الفرق بين هذين النوعين من المجتمعات لا يكمن في آليات التذويت المستخدمة، بل في مفهومها عن الجنسانية الأنثوية. ففي المجتمعات التي يسودها عزل ومراقبة النساء، يكون المفهوم الضمني لجنسانية المرأة فاعلا؛ أما في المجتمعات التي لا يوجد فيها مثل أساليب المراقبة والإكراه هذه، فإن مفهوم جنسانية المرأة يكون منفعلا. في محاولة قاسم أمين لفهم المنطق الكامن وراء عزل وتحجيب النساء والقواعد المؤسسة للفصل بين الجنسين، توصل الكاتب المسلم المنادي بتحرير المرأة إلى نتيجة مفادها أن النساء أكثر قدرة من الرجال على السيطرة على دوافعهن الجنسية، وأن الفصل بين الجنسين هو بالتالي وسيلة لحماية الرجال لا النساء. ابتدأ قاسم أمين بالسؤال حول أي من الجنسين في هذه المجتمعات يخاف الآخر، ومم يخاف. وحين لاحظ أن النساء لا يرغبن بالعزلة كثيرا ويخضعن لها بسبب إجبارهن عليها فقط، استنتج أن ما يخاف منه هو الفتنة أو الاضطراب والفوضى والتشوش (تعني الفتنة أيضا المرأة الجميلة ـ في دلالة تشير إلى المرأة المغوية التي تجعل الرجال يفقدون السيطرة على أنفسهم. يمكن تفسير الفتنة تبعا لاستخدام قاسم أمين للفظة باعتبارها فوضى تبدؤها المرأة ويستفزها الاضطراب الجنسي). ثم سأل من هو المقصود بالحماية من عزل المرأة. عجبا! لم لم تؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟ هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة واعتبر الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والتحكم على هواه؟ واعتبرت المرأة أقوى منه في كل ذلك حتى أبيح للرجال أن يكشفوا عن وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال. ومنع النساء من كشف وجوههن لأعين الرجال منعا مطلقا خوف أن ينفلت زمام هوى النفس من سلطة عقل الرجل فيسقط في الفتنة بأية امرأة تعرضت له مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخلق؟ إن زعم زاعم صحة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافا منه بأن المرأة أكمل استعدادا من الرجل ـ فلم توضع حينئذ تحت رقه في كل حال؟ يتصف المجتمع الإسلامي بالتناقض بين ما يمكن أن يسمى بـ(النظرية الصريحة) و(النظرية الضمنية) للجنسانية الأنثوية، وبالتالي بوجود نظرية مزدوجة للديناميات الجنسية الفعالة. تتمثل النظرية الصريحة في الاعتقاد المعاصر السائد الذي يشير إلى أن الرجل عدواني ومندفع في تفاعله المتبادل مع المرأة التي تعتبر سلبية ومستكينة. أما النظرية الضمنية، المتجذرة في عمق اللاوعي الإسلامي، فيوجزها الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين)، حيث يرى المدنية بمثابة صراع لاحتواء سلطة المرأة المدمرة التي تستحوذ على كل شيء. إذ ينبغي السيطرة على النساء للحيلولة دون تشتت انتباه الرجال وانصرافهم عن أداء واجباتهم الاجتماعية والدينية. ولن يتمكن المجتمع من البقاء إلا بإيجاد مؤسسات تعمل لصالح المؤمنين وتعزز وتكرس هيمنة الذكر من خلال الفصل بين الجنسين ونظام تعدد الزوجات. يلخص عباس محمود العقاد النظرية الصريحة للعلاقات بين الجنسين من منظور عدائي محاب لتفوق الرجل. ففي كتابه (المرأة في القرآن) حاول وصف الديناميات الذكرية ـ الأنثوية كما تتبدى في كتاب الله. فقد افتتح كتابه بايراد شاهد من القرآن يؤسس حقيقة قوامة الرجل ((وللرجال عليهن درجة) (البقرة: 228))، ليتابع بسرعة قائلا إن (حكم القرآن بتفضيل الرجل على المرأة هو الحكم البين من تاريخ بني آدم، منذ كانوا قبل نشوء الحضارات والشرائع العامة وبعد نشوئها). ما يجده العقاد في القرآن وفي الحضارة الإنسانية هو تكامل بين الجنسين اعتمادا على تضاد طبيعتهما. فالسمة المميزة للذكر هي إرادة السلطة، إرادة الفتح والإخضاع. أما الخاصة المميزة للأنثى فهي الإرادة السلبية للسلطة، لأن كل طاقاتها موظفة في السعي للخضوع للغلبة. لهذا، فإن (المرأة تتعرض وتنتظر، بينما الرجل يرغب ويسعى). وعلى الرغم من أن العقاد يفتقد عمق ومنهجية المقاربة الفرويدية الاستدلالية المتألقة، إلا أن أفكاره حول الديناميات الذكرية ـ الأنثوية تشابه إلى حد بعيد توكيد فرويد على جانب (قانون الغاب) من الجنسانية. فالتكامل بين الجنسين، تبعا للعقاد، يكمن في التضاد بين ما يملكانه من إرادات، ورغبات وطموحات. لقد منح الذكور في جميع أنواع الحيوانات قوة ـ متجسدة في البنية البيولوجية ـ لإكراه الإناث على الإذعان لمتطلبات الغريزة (الجنس).. وليس هناك حالة منحت فيها هذه القوة للنساء. أما النظرية الضمنية للجنسانية الأنثوية، كما يراها الغزالي انطلاقا من تفسيراته للنص القرآني، فهي تعطي المرأة دور الصياد والرجل دور الضحية المستكينة المستسلمة. إلا أن النظريتين تشتركان في عنصر أساسي هو قوة كيد النساء ((القدرة على خداع وهزيمة الرجال بالمكر والمكيدة، لا بالقوة)). لكن في حين يحاول العقاد ربط قوة كيد الأنثى بتكوينها الضعيف، رمز دونيتها التي قضاها الله، فإن الغزالي يرى قوتها بمثابة العنصر الأشد تدميرا للنظام الاجتماعي الإسلامي، حيث يعتبر الأنثوي مرادفا للشيطاني.
.
عدل سابقا من قبل في الأحد فبراير 10, 2008 3:31 pm عدل 1 مرات
رد: المفهوم الإسلامي حول الجنسانية الأنثوية الفاعلة
الإمام الغزالي وسيغموند فرويد: الفاعل مقابل المنفعل
عند مقارنة الغزالي بفرويد نواجه عقبة منهجية، أو بالأحرى شيئا يبدو كذلك. فحين كان الغزالي يكتب الفصل المتعلق بالنكاح في (إحياء علوم الدين) في القرن الحادي عشر، سعى إلى كشف الاعتقاد الإسلامي الحقيقي حول الموضوع. أما فرويد فقد حاول بناء نظرية علمية، بكل ما تتضمنه كلمة (علمي) من موضوعية وشمولية. ولم يفكر فرويد أنه يطور نظرية أوروبية حول الجنسانية الأنثوية؛ بل فكر بأنه يطور تفسيرا عالميا شاملا للأنثى البشرية. لكن يمكن التغلب بسهولة على هذه العقبة المنهجية إذا كنا (مدركين لتاريخانية الثقافة). فبإمكاننا رؤية نظرية فرويد باعتبارها منتجا (محددا تاريخيا) لثقافته. ولاحظ لينتون أن المعطيات الأنثروبولوجية قد أظهرت أن الثقافة هي التي تحدد وتقرر إدراك الفوارق البيولوجية وليس العكس. تفرض كافة الثقافات مواقف وأنشطة مختلفة على الرجال والنساء. ومعظمها يحاول عقلنة هذه الفروض والأوامر بلغة الفوارق السيكولوجية بين الجنسين أو أدوارهما المختلفة في الإنجاب. لكن أية دراسة مقارنة للأوضاع المفروضة على النساء والرجال في مختلف الثقافات تبين على ما يبدو أنه في حين قد تكون مثل هذه العوامل خدمت كنقطة انطلاق لتطور انقسام بينهم، إلا أن الأوامر الفعلية المفروضة محددة كليا تقريبا بالثقافة السائدة. حتى في حالة تفاوت السمات والخصائص السيكولوجية المعزوة للرجال والنساء في مختلف المجتمعات لتصل إلى درجة افتقارها إلى الأساس الفيزيولوجي. يعمل عالم الاجتماع ضمن إطار وضع محدد بسيرة حياته الذاتية، حيث يجد نفسه في (بيئة مادية واجتماعية ـ ثقافية هو الذي حددها، واختار موقعه فيها، لا فيما يتعلق بالحيز المكاني المادي والزماني الموضوعي، أو مكانته ودوره ضمن النظام الاجتماعي فحسب، ولكن أيضا بوضعه الأخلاقي والأيديولوجي). ولهذا يمكننا اعتبار نظرية فرويد حول الجنسانية (النشاط الجنسي) على وجه العموم، وجنسانية المرأة على وجه الخصوص، بمثابة انعكاس لمعتقدات مجتمعه، وليست نظرية علمية (موضوعية وعابرة للتاريخ). وعند مقارنة نظريتي فرويد والغزالي سوف نقارن المفهومين المختلفين للجنسانية لدى الثقافتين المختلفتين، اعتمدت الأولى منهما على نموذج تكون فيه الأنثى منفعلة، واستندت الثانية إلى ذاك الذي تكون فيه فاعلة. أما غرض المقارنة فهو تسليط الضوء على السمة الخاصة التي تميز النظرية الإسلامية المتعلقة بديناميات الذكر ـ الأنثى، وليس المقارنة بين وضع المرأة في الغرب (المنتمي إلى الثقافة المسيحية ـ اليهودية) وفي الشرق المسلم. الجديد الذي أسهم به فرويد في الثقافة الغربية المعاصرة كان إقراره بأن الجنس (المتسامي بالطبع) هو مصدر الحضارة ذاتها. وقاده رد الاعتبار للجنس كأساس للإبداع الحضاري إلى إعادة تفحص وسبر الفوارق الجنسية. وأنتجت إعادة تقييم هذه الفوارق، وبالتالي مساهمات الجنسين في النظام الاجتماعي، مفهوم الجنسانية الأنثوية (النشاط الجنسي الأنثوي) في النظرية الفرويدية. عند تحليل الفوارق بين الجنسين، صدم فرويد بظاهرة غريبة: ثنائية الجنسانية. وهي ظاهرة مربكة ومحيرة لكل من يحاول تقييم أوجه الاختلاف في الجنس بدلا من نقاط التشابه: .. بعد ذلك، يخبرك العلم شيئا يعاكس توقعاتك ويحتمل أن يكون مشوشا ومربكا لمشاعرك على نحو متعمد. فهو يجذب انتباهك إلى حقيقة أن أجزاء من الجهاز التناسلي الذكري يظهر أيضا في جسم المرأة، لكن في حالة ضمور، والعكس صحيح. وهو يعتبر ظهورها إشارات دلالية على الثنائية الجنسانية كأنما الفرد ليس بذكر ولا بأنثى بل كلا الأمرين معا ـ مجرد مقدار معين موجود في أحدهما أكثر من الآخر. أما الاستدلال الذي يستخلصه المرء من الازدواجية الجنسانية فهو عدم إمكانية قبول التشريح كأساس للفوارق الجنسية. فرويد توصل إلى هذا الاستدلال: لسوف يطلب منك بعدئذ أن تطلع على فكرة أن النسبة التي تختلط فيها الذكورة والأنوثة في الفرد تخضع لتقلبات كثيرة. ولكن نظرا لوجود نوع واحد من المنتج الجنسي، البويضة أو النطفة، في شخص واحد، وذلك بغض النظر عن الحالات النادرة جدا، فإنك مضطر للتشكيك بالأهمية الحاسمة لهذه العناصر واستنتاج أن ما يشكل الذكورة أو الأنوثة خاصة مجهولة لا يمكن للتشريح أن يستحوذ عليها. إذن، من أين حصل فرويد على أس استقطابه للجنسانية البشرية إلى ذكرية وأنثوية، إذا كان يؤكد على أن التشريح لا يمكن أن يمثل القاعدة المؤسسة لمثل هذه الفرق؟ يشرح ذلك في أحد الهوامش معتبرا على ما يبدو أنه نقطة ثانوية: من الضروري توضيح أن مفهومي (الذكورة) و(الأنوثة)، بمحتواهما الذي يبدو ملتبسا بالنسبة للمعنى الدلالي العادي، ينتميان إلى أكثر التعابير تشويشا وإرباكا في العلم، ويمكن تجزئتهما إلى ثلاثة مسارات. الأول يستخدم الذكورة والأنوثة من حين لآخر بمعنى الفعالية واللافعالية، والثاني بالمعنى البيولوجي، والثالث بالمعنى السوسيولوجي. وأول هذه المعاني هو الجوهري والوحيد الذي يمكن الإفادة منه في التحليل النفسي. يساعدنا استقطاب الجنسانية البشرية إلى نوعين، الأنوثة والذكورة، ومساواتهما باللافعالية والفعالية في النظرية الفرويدي، على فهم نظرية الإمام الغزالي التي تتميز تحديدا بغياب مثل هذا الاستقطاب. فهي تدرك جنسانية الذكر والأنثى باعتبارها تشترك في/ وتنتمي إلى نفس النوع من الجنسانية. بالنسبة إلى فرويد، تعتبر وظيفة الخلية الجنسية رمزا للعلاقة بين الذكر والأنثى خلال الجماع. وهو يراه بمثابة مواجهة عدائية بين الجرأة والخضوع. الخلية الجنسية الذكرية (النطفة) تتحرك بنشاط وتبحث عن الأنثوية، وهذه الأخيرة (البويضة) لا تتحرك بل تنتظر باستكانة.. هذا السلوك للمتعضي الجنسي الأولي هو في الحقيقة نموذج لسلوك الأفراد الجنسي خلال الجماع. فالذكر يطارد الأنثى بغرض الاتحاد الجنسي، والاستحواذ عليها والولوج فيها. أما بالنسبة للإمام الغزالي، فللذكر والأنثى خلايا متماثلة. وكلمة (ماء) تستخدم للدلالة على الخليتين الجنسيتين للذكر والأنثى (ماء الرجل وماء المرأة). وقد أشار إلى الفوارق التشريحية بين الجنسين حين وضح موقف الإسلام من (العزل) وهو طريقة تقليدية استخدمت لمنع الحمل في الحقب السابقة على ظهور الإسلام. وعند محاولته تأسيس موقف النبي من العزل، قدم الغزالي النظرية الإسلامية حول عملية التناسل وإسهام ودور كل من الجنسين فيها. لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعا إما من مائه ومائها أو من مائه ودم الحيض.. وكيفما كان فماء المرأة ركن في الانعقاد. المسألة المحيرة لا تتمثل في السبب الذي جعل الغزالي يخفق في رؤية الفرق بين الخلايا الذكرية والأنثوية، بل في السبب الذي جعل فرويد، الذي كان عارفا تمام المعرفة بالحقائق البيولوجية، يرى البويضة كخلية مستكينة هامدة ليس لها سوى إسهام ثانوي في عملية التناسل مقارنة بمساهمة النطفة. وعلى الرغم من التقدم التقاني، تشبثت النظريات الأوروبية لقرون عديدة بفكرة أن النطفة هي العامل المحدد الوحيد في عملية التناسل؛ وأن الجنين يصنع بشكل مسبق في النطف وأن المهبل مجرد مكان مريح ودافئ يمكنه من النمو. تشديد الغزالي على التماهي بين جنسانية الذكر والأنثى يتوضح بجلاء في منحه الأنثى صفة القذف، وهي أكثر صفات النشاط الجنسي القضيبي بروزا وأقلها إثارة للخلاف. الأمر الذي يقلص الفوارق بين الجنسين إلى مجرد فرق في (طبع الإنزال) (نمط القذف)، حيث يكون أبطأ عند الأنثى من الذكر. .. والاختلاف في طبع الإنزال يوجب التنافر مهما كان الزوج سابقا إلى الإنزال.. فإن إنزالها ربما يتأخر فيهيج شهوتها ثم القعود عنها إيذاء لها. هنا، نحن نبتعد كثيرا عن توصيفات عباس محمود العقاد وسيغموند فرويد لما يحدث في مخادع الزوجية، التي تشبه ساحة حرب لا ملتجأ للذة والاستمتاع. وبالنسبة للغزالي، ليس هناك ذكر معتد جسور وأنثى ضحية مستكينة، بل زوجان يتعاونان لإمتاع بعضهما بعضا. إن الإقرار بفاعلية الجنسانية الأنثوية اعتراف يؤدي إلى تفجير النظام الاجتماعي، مع مضامين بعيدة المدى تطال بنيته برمتها. لكن إنكار تماثل جنسانية الذكر والأنثى يعتبر خيارا حاسما يهدد بالانفجار أيضا. فعلى سبيل المثال، يقر فرويد بأن البظر عضو قضيبي واضح وثانوي، وأن الأنثى بالتالي ثنائية الجنس أكثر من الرجل. ليس هناك من شك بأن الطبيعة الجنسية الثنائية التي نؤكد على أنها صفة مميزة للكائنات البشرية تظهر نفسها بشكل أكثر وضوحا في الأنثى منها في الذكر. فلهذا الأخير منطقة جنسية رئيسية واحدة ـ عضو جنسي واحد ـ في حين أن للأولى منطقتين اثنيتن: المهبل، العضو الجنسي الأنثوي الحقيقي، والبظر المشابه لعضو الذكر. لكن بدلا من تطوير نظرية تعمل على تكامل ودمج وتفصيل غنى الخصوصيات والتفصيلات في كلا الجنسين، طور فرويد نظرية عن الجنسانية الأنثوية اعتمادا على الاختزال: خصاء الملامح القضيبية للأنثى. فالطفلة التي تكون ثنائية الجنس في المراحل المبكرة من عمرها، لا تتطور إلى أنثى ناضجة إلا إذا نجحت في نكران البظر، القضيب الثانوي: (إن إلغاء الجنسانية البظرية شرط ضروري مسبق لتطور الأنوثة). وهكذا تحدث عملية البلوغ ضمورا في جسد الأنثى في حين تعزز القدرة القضيبية الكامنة في الذكر، وبذلك تخلق تناقضا واسعا في القدرات الجنسية الكامنة في الكائنات البشرية اعتمادا على جنسهم: البلوغ الذي يحدث في الصبي نموا متعاظما في اللبيدو، يميز نفسه في البنت بموجة جديدة من الكبت الذي يتعلق على نحو خاص بالجنسانية البظرية. فتعزيز الكوابح الناجمة عن كبت البلوغ لدى المرأة، يخلق باعثا محفزا في لبيدو الرجل ويجبره على زيادة طاقته؛ ومع بلوغ اللبيدو الذروة، تتعاظم المغالاة في تقدير العامل الجنسي، الذي لا يمكن أن يقدم بقوته الكاملة إلا حين ترفض المرأة جنسانيتها وتنكرها. وتصبح الطفلة امرأة حين يتصرف (بظرها كرقاقة من خشب الصنوبر التي تستخدم لإذكاء نار الخشب الأشد قساوة). ويضيف فرويد بأن هذه العملية تأخذ بعض الوقت، تبقى خلاله (الزوجة الشابة مخدرة). وقد يصبح هذا الخدر دائما إذا رفض البظر التخلي عن سرعة استثارته. فالمرأة الفرويدية تكون مهيأة مسبقا للبرودة الجنسية حين تواجه شريكها المسلح بالقضيب. برودة المرأة الجنسية، التي يبدو أن تواترها يؤكد هذا التجاهل (تجاهل طبيعة الوظيفة الأنثوية) تعتبر ظاهرة مازالت غير مفهومة بصورة كافية. ففي بعض الأحيان تكون نفسية المنشأ وهي عرضة في هذه الحالة للتأثر؛ لكن في الحالات الأخرى توحي بفرضية كونها محددة فطريا، بل حتى بوصفها عاملا تشريحيا مساعدا. وبالمغايرة مع الأنثى الفرويدية الباردة، المستكينة، تبدو المطالب الجنسية لأنثى الغزالي كاسحة ومربكة حقا، وتصبح ضرورة تلبية الذكر لها واجبا اجتماعيا مفروضا. فأن تكون المرأة فاضلة هو واجب الرجل الذي يجب أن يزيد الجماع أو ينقصه وفقا لاحتياجاتها وبحيث يضمن عفتها. وتربط نظرية الغزالي بصورة مباشرة أمن النظام الاجتماعي بعفة المرأة، وبالتالي بإشباع حاجاتها الجنسية. فالنظام الاجتماعي يكون آمنا حين تقصر المرأة نفسها على زوجها ولا تخلق (فتنة)، أو فوضى، من خلال إغواء الرجال لممارسة الزنا المحرم. ويتبدى رعب الغزالي من المتطلبات الجنسية الطاغية للأنثى الفاعلة، حين يعترف بالصعوبة التي يلاقيها الرجل في إشباع رغبة المرأة. نعم ينبغي أن يزيد وينقص بحسب حاجتها في التحصين.. وإن كان لا يثبت المطالب بالوطء فذلك لعسر المطالبة والوفاء به.
الخوف من الجنسانية الأنثوية
تأثر إدراك الجسارة والفاعلية الأنثوية تأثرا مباشرا بنظرية جنسانية المرأة. فبالنسبة لفرويد تتجه هذه العدوانية الأنثوية نحو الداخل، وذلك في توافق مع سلبيتها واستكانتها الجنسية، فالمرأة مازوخية. إن قمع جسارة وفاعلية المرأة المفروض عليها فطريا واجتماعيا يدعم تطور دوافع مازوخية قوية، تنجح على صعيد الإثارة الجنسية كما نعلم، في إعاقة النزعات التدميرية التي تتحول نحو الداخل. ولهذا فإن المازوخية أنثوية حقا، كما يقول الناس. لكن إن قابلت المازوخية في الرجال، مثلما يحدث في كثير من الأحوال، فإن ما يمكن قوله هو أن هؤلاء يبدون سمات أنثوية واضحة تماما. إن غياب الجنسانية الفاعلة يصوغ المرأة في قالب الكائن السلبي المستكين والمازوخي. ولذلك ليس من المفاجئ أن تعتبر الجرأة الجنسية لدى المرأة في رأي الإسلام متجهة إلى الخارج. فطبيعة جرأتها وفاعليتها وعدوانيتها جنسية على وجه الدقة. وتتمتع الأنثى (تبعا للإسلام) بجاذبية قاتلة تضعف إرادة الذكر في مقاومتها، وتقلص دوره إلى مجرد الإذعان السلبي. فليس لديه من خيار؛ إذ لا يملك إلا الاستسلام لجاذبيتها، ومن هنا أتى تماهيها مع الفتنة (الاضطراب والفوضى) والقوى الكونية التي تعصي أمر الله وتعادي المجتمع. روى جابر أن النبي رأى امرأة فدخل على زينب فقضى حاجته وخرج. وقال الرسول: (إن المرأة إذا أقبلت أقبلت بصورة الشيطان. فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله معها مثل الذي معها). علق الإمام مسلم، أحد المرجعيات الراسخة في الفقه السني، على هذا الحديث بالقول إن النبي كان يشير إلى ..السحر، إلى الانجذاب الذي لا يقاوم الذي غرسه الله في نفس الرجل. وكان يشير إلى اللذة التي يعيشها الرجل عندما ينظر إلى المرأة وإلى اللذة التي يحس بها مع أي شيء يتعلق بها. وهي تشبه الشيطان في سلطته على الأفراد، تلك السلطة التي لا تقاوم. هذا الانجذاب هو رابطة طبيعية بين الجنسين. فكلما التقى رجل بامرأة قد تحدث الفتنة: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما). المرأة التي (ذاقت طعم) الاتصال الجنسي هي الأشد خطرا. فالمرأة المتزوجة هي التي تواجه الصعوبة الأكبر في تحمل الإحباط الجنسي، وهي التي تجسد تهديدا استثنائيا للرجال حين يغيب عنها زوجها: (لا تدخلوا على المغيبات (اللاتي غاب عنهن أزواجهن) فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم). في الثقافة الفلكلورية المغربية على سبيل المثال، يتلخص هذا التهديد في الاعتقاد بوجود جنية بغيضة تدعى (عيشة القنديشة). وهي بغيضة بالتحديد لأنها شبقة وداعرة، تجوب الشوارع والأماكن المظلمة وقد تدلى ثدياها وشفتاها. أما تسليتها المفضلة فهي الانقضاض على الرجال من أجل غوايتهم لممارسة الجنس معها، ومن ثم اختراق أجسادهم في نهاية المطاف والبقاء فيها إلى الأبد ، ويقال عن ضحيتها عندئذ بأنه (مسكون). الخوف من عيشة القنديشة مهيمن على الحياة اليومية في المغرب. فالخوف من الأنثى التي تخصي الذكور يعتبر تراثا تقليديا يتخذ العديد من الأشكال في المعتقدات والممارسات الشعبية، وفي الكتابات الدينية والدنيوية في آن معا، وخصوصا في الروايات. يخترق الثقافة الفلكلورية المغربية موقف سلبي تجاه الأنوثة. فعشق امرأة يوصف في الأوساط الشعبية بأنه شكل من أشكال المرض العقلي، حالة عقلية مدمرة للذات. ويشير أحد الأقوال المأثورة إلى أن الحب مسألة معقدة، فإذا لم يدفعك إلى الجنون فهو يقتلك. أما أفضل مثال على هذه الريبة بالمرأة فيجسده الشاعر سيدي عبد الرحمن المجدوب الذي عاش في القرن السادس عشر، وتحولت أشعاره إلى أقوال مأثورة بسبب شهرتها وشعبيتها. في إحدى قصائده يشبه المجدوب النساء بالمراكب الخشبية المحكوم عليها بالغرق وعلى ركابها بالدمار. ثم ينصح الرجل بأن يحاذر المرأة ولا يثق بها كي لا تخونه، وألا يصدق وعودها كي لا تخدعه. وهو يؤكد أن السمكة بحاجة إلى الماء كي تسبح، أما المرأة فهي المخلوق الوحيد القادر على السباحة بدون ماء!. وأخيرا يقول إن كيدهن عظيم، ولكي أحمي نفسي سأهرب حتى النهاية، فالمرأة تتزنر بالأفاعي وتتزين بالعقارب. يواجه النظام الإسلامي تهديدين اثنين: الكفار من الخارج والنساء من الداخل. حدثنا آدم، حدثنا شعبة.. عن أسامة بن زيد عن النبي أنه قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). المفارقة أن النظريتين الإسلامية والأوروبية تصلان إلى نفس النتيجة الختامية: المرأة عنصر مدمر للنظام الاجتماعي: عند الغزالي بسبب فاعليتها، وعند فرويد بسبب لافاعليتها. لقد دمجت الأنظمة الاجتماعية المختلفة التوترات بين الدين والجنسانية بطرائق مختلفة. ففي التجربة الغربية المسيحية، جرى الهجوم على الجنسانية ذاتها، وانحطت إلى مرتبة البهيمية وأدينت بوصفها معادية للحضارة والتمدن. كما انشطر الفرد إلى ذاتين متناقضتين: الروح والجسد، الأنا والهو. وانتصار الحضارة تضمن في دلالته انتصار الروح على الجسد، والأنا على الهو، والانضباط على الفوضى، والروحانية على الجنس. لكن الإسلام اتخذ سبيلا مختلفا اختلافا جوهريا. فما تمت مهاجمته والحط من قدره ليس الجنسانية بل المرأة، كتجسيد للدمار والخراب، ورمز للفوضى واللانظام. فالمرأة فتنة، ونموذج يمثل الجموح الخارج عن حدود السيطرة، ومثال حي على أخطار الجنسانية واحتمالاتها الهائجة التي توقع الفوضى والانقسام. ولقد رأينا أن النظرية الإسلامية تعتبر الغريزة الفطرية بمثابة طاقة يمكن استخدامها بصورة بناءة بما يرضي الله ويفيد المجتمع إذا عاش الناس تبعا لشرعه. والجنسانية بحد ذاتها لا تشكل خطرا، بل على العكس، فلها ثلاث وظائف إيجابية حيوية. فهي تسمح للمؤمنين بإدامة نسلهم على الأرض، وهي حالة لا يمكن الاستغناء عنها إذا ما أريد للنظام الاجتماعي أن يتواجد على الإطلاق. وهي تخدم كـ(منبهة على اللذات الموعودة في الجنان) ، ولهذا فهي تشجع الرجال على السعي لدخول جنة الخلد في السماء وطاعة الله على الأرض. وأخيرا، يعتبر إشباع الرغبة الجنسية ضروريا لنجاح الجهود الفكرية. نظرية التسامي الإسلامية تختلف كلية عن التراث المسيحي الغربي كما يتمثل بنظرية التحليل النفسي الفرويدية. إذ يرى فرويد الحضارة باعتبارها حربا ضد الجنسانية. فالحضارة هي طاقة جنسية (تحولت عن هدفها الجنسي واتجهت نحو غايات أخرى، لم تعد جنسية بل أصبحت أكثر قيمة من الناحية الاجتماعية). أما النظرية الإسلامية فهي ترى الحضارة بمثابة نتيجة للطاقة الجنسية التي جرى إشباعها. وليس العمل عاقبة للإحباط الجنسي بل للجنسانية الراضية والمشبعة والمتناغمة: فإن النفس ملول وهي عن الحق نفور لأنه على خلاف طبعها. فلو كلفت المقاومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت وثابت، وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت. وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القلب. وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات. -المقال جزء من بحث للباحثة فاطمة المرنيسي بحث نشر كاملاً في كتاب صدر عن دار المدى مؤخراً بعنوان: المرأة والجنسانية في المجتمعات الاسلامية للباحثة التركية
عند مقارنة الغزالي بفرويد نواجه عقبة منهجية، أو بالأحرى شيئا يبدو كذلك. فحين كان الغزالي يكتب الفصل المتعلق بالنكاح في (إحياء علوم الدين) في القرن الحادي عشر، سعى إلى كشف الاعتقاد الإسلامي الحقيقي حول الموضوع. أما فرويد فقد حاول بناء نظرية علمية، بكل ما تتضمنه كلمة (علمي) من موضوعية وشمولية. ولم يفكر فرويد أنه يطور نظرية أوروبية حول الجنسانية الأنثوية؛ بل فكر بأنه يطور تفسيرا عالميا شاملا للأنثى البشرية. لكن يمكن التغلب بسهولة على هذه العقبة المنهجية إذا كنا (مدركين لتاريخانية الثقافة). فبإمكاننا رؤية نظرية فرويد باعتبارها منتجا (محددا تاريخيا) لثقافته. ولاحظ لينتون أن المعطيات الأنثروبولوجية قد أظهرت أن الثقافة هي التي تحدد وتقرر إدراك الفوارق البيولوجية وليس العكس. تفرض كافة الثقافات مواقف وأنشطة مختلفة على الرجال والنساء. ومعظمها يحاول عقلنة هذه الفروض والأوامر بلغة الفوارق السيكولوجية بين الجنسين أو أدوارهما المختلفة في الإنجاب. لكن أية دراسة مقارنة للأوضاع المفروضة على النساء والرجال في مختلف الثقافات تبين على ما يبدو أنه في حين قد تكون مثل هذه العوامل خدمت كنقطة انطلاق لتطور انقسام بينهم، إلا أن الأوامر الفعلية المفروضة محددة كليا تقريبا بالثقافة السائدة. حتى في حالة تفاوت السمات والخصائص السيكولوجية المعزوة للرجال والنساء في مختلف المجتمعات لتصل إلى درجة افتقارها إلى الأساس الفيزيولوجي. يعمل عالم الاجتماع ضمن إطار وضع محدد بسيرة حياته الذاتية، حيث يجد نفسه في (بيئة مادية واجتماعية ـ ثقافية هو الذي حددها، واختار موقعه فيها، لا فيما يتعلق بالحيز المكاني المادي والزماني الموضوعي، أو مكانته ودوره ضمن النظام الاجتماعي فحسب، ولكن أيضا بوضعه الأخلاقي والأيديولوجي). ولهذا يمكننا اعتبار نظرية فرويد حول الجنسانية (النشاط الجنسي) على وجه العموم، وجنسانية المرأة على وجه الخصوص، بمثابة انعكاس لمعتقدات مجتمعه، وليست نظرية علمية (موضوعية وعابرة للتاريخ). وعند مقارنة نظريتي فرويد والغزالي سوف نقارن المفهومين المختلفين للجنسانية لدى الثقافتين المختلفتين، اعتمدت الأولى منهما على نموذج تكون فيه الأنثى منفعلة، واستندت الثانية إلى ذاك الذي تكون فيه فاعلة. أما غرض المقارنة فهو تسليط الضوء على السمة الخاصة التي تميز النظرية الإسلامية المتعلقة بديناميات الذكر ـ الأنثى، وليس المقارنة بين وضع المرأة في الغرب (المنتمي إلى الثقافة المسيحية ـ اليهودية) وفي الشرق المسلم. الجديد الذي أسهم به فرويد في الثقافة الغربية المعاصرة كان إقراره بأن الجنس (المتسامي بالطبع) هو مصدر الحضارة ذاتها. وقاده رد الاعتبار للجنس كأساس للإبداع الحضاري إلى إعادة تفحص وسبر الفوارق الجنسية. وأنتجت إعادة تقييم هذه الفوارق، وبالتالي مساهمات الجنسين في النظام الاجتماعي، مفهوم الجنسانية الأنثوية (النشاط الجنسي الأنثوي) في النظرية الفرويدية. عند تحليل الفوارق بين الجنسين، صدم فرويد بظاهرة غريبة: ثنائية الجنسانية. وهي ظاهرة مربكة ومحيرة لكل من يحاول تقييم أوجه الاختلاف في الجنس بدلا من نقاط التشابه: .. بعد ذلك، يخبرك العلم شيئا يعاكس توقعاتك ويحتمل أن يكون مشوشا ومربكا لمشاعرك على نحو متعمد. فهو يجذب انتباهك إلى حقيقة أن أجزاء من الجهاز التناسلي الذكري يظهر أيضا في جسم المرأة، لكن في حالة ضمور، والعكس صحيح. وهو يعتبر ظهورها إشارات دلالية على الثنائية الجنسانية كأنما الفرد ليس بذكر ولا بأنثى بل كلا الأمرين معا ـ مجرد مقدار معين موجود في أحدهما أكثر من الآخر. أما الاستدلال الذي يستخلصه المرء من الازدواجية الجنسانية فهو عدم إمكانية قبول التشريح كأساس للفوارق الجنسية. فرويد توصل إلى هذا الاستدلال: لسوف يطلب منك بعدئذ أن تطلع على فكرة أن النسبة التي تختلط فيها الذكورة والأنوثة في الفرد تخضع لتقلبات كثيرة. ولكن نظرا لوجود نوع واحد من المنتج الجنسي، البويضة أو النطفة، في شخص واحد، وذلك بغض النظر عن الحالات النادرة جدا، فإنك مضطر للتشكيك بالأهمية الحاسمة لهذه العناصر واستنتاج أن ما يشكل الذكورة أو الأنوثة خاصة مجهولة لا يمكن للتشريح أن يستحوذ عليها. إذن، من أين حصل فرويد على أس استقطابه للجنسانية البشرية إلى ذكرية وأنثوية، إذا كان يؤكد على أن التشريح لا يمكن أن يمثل القاعدة المؤسسة لمثل هذه الفرق؟ يشرح ذلك في أحد الهوامش معتبرا على ما يبدو أنه نقطة ثانوية: من الضروري توضيح أن مفهومي (الذكورة) و(الأنوثة)، بمحتواهما الذي يبدو ملتبسا بالنسبة للمعنى الدلالي العادي، ينتميان إلى أكثر التعابير تشويشا وإرباكا في العلم، ويمكن تجزئتهما إلى ثلاثة مسارات. الأول يستخدم الذكورة والأنوثة من حين لآخر بمعنى الفعالية واللافعالية، والثاني بالمعنى البيولوجي، والثالث بالمعنى السوسيولوجي. وأول هذه المعاني هو الجوهري والوحيد الذي يمكن الإفادة منه في التحليل النفسي. يساعدنا استقطاب الجنسانية البشرية إلى نوعين، الأنوثة والذكورة، ومساواتهما باللافعالية والفعالية في النظرية الفرويدي، على فهم نظرية الإمام الغزالي التي تتميز تحديدا بغياب مثل هذا الاستقطاب. فهي تدرك جنسانية الذكر والأنثى باعتبارها تشترك في/ وتنتمي إلى نفس النوع من الجنسانية. بالنسبة إلى فرويد، تعتبر وظيفة الخلية الجنسية رمزا للعلاقة بين الذكر والأنثى خلال الجماع. وهو يراه بمثابة مواجهة عدائية بين الجرأة والخضوع. الخلية الجنسية الذكرية (النطفة) تتحرك بنشاط وتبحث عن الأنثوية، وهذه الأخيرة (البويضة) لا تتحرك بل تنتظر باستكانة.. هذا السلوك للمتعضي الجنسي الأولي هو في الحقيقة نموذج لسلوك الأفراد الجنسي خلال الجماع. فالذكر يطارد الأنثى بغرض الاتحاد الجنسي، والاستحواذ عليها والولوج فيها. أما بالنسبة للإمام الغزالي، فللذكر والأنثى خلايا متماثلة. وكلمة (ماء) تستخدم للدلالة على الخليتين الجنسيتين للذكر والأنثى (ماء الرجل وماء المرأة). وقد أشار إلى الفوارق التشريحية بين الجنسين حين وضح موقف الإسلام من (العزل) وهو طريقة تقليدية استخدمت لمنع الحمل في الحقب السابقة على ظهور الإسلام. وعند محاولته تأسيس موقف النبي من العزل، قدم الغزالي النظرية الإسلامية حول عملية التناسل وإسهام ودور كل من الجنسين فيها. لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعا إما من مائه ومائها أو من مائه ودم الحيض.. وكيفما كان فماء المرأة ركن في الانعقاد. المسألة المحيرة لا تتمثل في السبب الذي جعل الغزالي يخفق في رؤية الفرق بين الخلايا الذكرية والأنثوية، بل في السبب الذي جعل فرويد، الذي كان عارفا تمام المعرفة بالحقائق البيولوجية، يرى البويضة كخلية مستكينة هامدة ليس لها سوى إسهام ثانوي في عملية التناسل مقارنة بمساهمة النطفة. وعلى الرغم من التقدم التقاني، تشبثت النظريات الأوروبية لقرون عديدة بفكرة أن النطفة هي العامل المحدد الوحيد في عملية التناسل؛ وأن الجنين يصنع بشكل مسبق في النطف وأن المهبل مجرد مكان مريح ودافئ يمكنه من النمو. تشديد الغزالي على التماهي بين جنسانية الذكر والأنثى يتوضح بجلاء في منحه الأنثى صفة القذف، وهي أكثر صفات النشاط الجنسي القضيبي بروزا وأقلها إثارة للخلاف. الأمر الذي يقلص الفوارق بين الجنسين إلى مجرد فرق في (طبع الإنزال) (نمط القذف)، حيث يكون أبطأ عند الأنثى من الذكر. .. والاختلاف في طبع الإنزال يوجب التنافر مهما كان الزوج سابقا إلى الإنزال.. فإن إنزالها ربما يتأخر فيهيج شهوتها ثم القعود عنها إيذاء لها. هنا، نحن نبتعد كثيرا عن توصيفات عباس محمود العقاد وسيغموند فرويد لما يحدث في مخادع الزوجية، التي تشبه ساحة حرب لا ملتجأ للذة والاستمتاع. وبالنسبة للغزالي، ليس هناك ذكر معتد جسور وأنثى ضحية مستكينة، بل زوجان يتعاونان لإمتاع بعضهما بعضا. إن الإقرار بفاعلية الجنسانية الأنثوية اعتراف يؤدي إلى تفجير النظام الاجتماعي، مع مضامين بعيدة المدى تطال بنيته برمتها. لكن إنكار تماثل جنسانية الذكر والأنثى يعتبر خيارا حاسما يهدد بالانفجار أيضا. فعلى سبيل المثال، يقر فرويد بأن البظر عضو قضيبي واضح وثانوي، وأن الأنثى بالتالي ثنائية الجنس أكثر من الرجل. ليس هناك من شك بأن الطبيعة الجنسية الثنائية التي نؤكد على أنها صفة مميزة للكائنات البشرية تظهر نفسها بشكل أكثر وضوحا في الأنثى منها في الذكر. فلهذا الأخير منطقة جنسية رئيسية واحدة ـ عضو جنسي واحد ـ في حين أن للأولى منطقتين اثنيتن: المهبل، العضو الجنسي الأنثوي الحقيقي، والبظر المشابه لعضو الذكر. لكن بدلا من تطوير نظرية تعمل على تكامل ودمج وتفصيل غنى الخصوصيات والتفصيلات في كلا الجنسين، طور فرويد نظرية عن الجنسانية الأنثوية اعتمادا على الاختزال: خصاء الملامح القضيبية للأنثى. فالطفلة التي تكون ثنائية الجنس في المراحل المبكرة من عمرها، لا تتطور إلى أنثى ناضجة إلا إذا نجحت في نكران البظر، القضيب الثانوي: (إن إلغاء الجنسانية البظرية شرط ضروري مسبق لتطور الأنوثة). وهكذا تحدث عملية البلوغ ضمورا في جسد الأنثى في حين تعزز القدرة القضيبية الكامنة في الذكر، وبذلك تخلق تناقضا واسعا في القدرات الجنسية الكامنة في الكائنات البشرية اعتمادا على جنسهم: البلوغ الذي يحدث في الصبي نموا متعاظما في اللبيدو، يميز نفسه في البنت بموجة جديدة من الكبت الذي يتعلق على نحو خاص بالجنسانية البظرية. فتعزيز الكوابح الناجمة عن كبت البلوغ لدى المرأة، يخلق باعثا محفزا في لبيدو الرجل ويجبره على زيادة طاقته؛ ومع بلوغ اللبيدو الذروة، تتعاظم المغالاة في تقدير العامل الجنسي، الذي لا يمكن أن يقدم بقوته الكاملة إلا حين ترفض المرأة جنسانيتها وتنكرها. وتصبح الطفلة امرأة حين يتصرف (بظرها كرقاقة من خشب الصنوبر التي تستخدم لإذكاء نار الخشب الأشد قساوة). ويضيف فرويد بأن هذه العملية تأخذ بعض الوقت، تبقى خلاله (الزوجة الشابة مخدرة). وقد يصبح هذا الخدر دائما إذا رفض البظر التخلي عن سرعة استثارته. فالمرأة الفرويدية تكون مهيأة مسبقا للبرودة الجنسية حين تواجه شريكها المسلح بالقضيب. برودة المرأة الجنسية، التي يبدو أن تواترها يؤكد هذا التجاهل (تجاهل طبيعة الوظيفة الأنثوية) تعتبر ظاهرة مازالت غير مفهومة بصورة كافية. ففي بعض الأحيان تكون نفسية المنشأ وهي عرضة في هذه الحالة للتأثر؛ لكن في الحالات الأخرى توحي بفرضية كونها محددة فطريا، بل حتى بوصفها عاملا تشريحيا مساعدا. وبالمغايرة مع الأنثى الفرويدية الباردة، المستكينة، تبدو المطالب الجنسية لأنثى الغزالي كاسحة ومربكة حقا، وتصبح ضرورة تلبية الذكر لها واجبا اجتماعيا مفروضا. فأن تكون المرأة فاضلة هو واجب الرجل الذي يجب أن يزيد الجماع أو ينقصه وفقا لاحتياجاتها وبحيث يضمن عفتها. وتربط نظرية الغزالي بصورة مباشرة أمن النظام الاجتماعي بعفة المرأة، وبالتالي بإشباع حاجاتها الجنسية. فالنظام الاجتماعي يكون آمنا حين تقصر المرأة نفسها على زوجها ولا تخلق (فتنة)، أو فوضى، من خلال إغواء الرجال لممارسة الزنا المحرم. ويتبدى رعب الغزالي من المتطلبات الجنسية الطاغية للأنثى الفاعلة، حين يعترف بالصعوبة التي يلاقيها الرجل في إشباع رغبة المرأة. نعم ينبغي أن يزيد وينقص بحسب حاجتها في التحصين.. وإن كان لا يثبت المطالب بالوطء فذلك لعسر المطالبة والوفاء به.
الخوف من الجنسانية الأنثوية
تأثر إدراك الجسارة والفاعلية الأنثوية تأثرا مباشرا بنظرية جنسانية المرأة. فبالنسبة لفرويد تتجه هذه العدوانية الأنثوية نحو الداخل، وذلك في توافق مع سلبيتها واستكانتها الجنسية، فالمرأة مازوخية. إن قمع جسارة وفاعلية المرأة المفروض عليها فطريا واجتماعيا يدعم تطور دوافع مازوخية قوية، تنجح على صعيد الإثارة الجنسية كما نعلم، في إعاقة النزعات التدميرية التي تتحول نحو الداخل. ولهذا فإن المازوخية أنثوية حقا، كما يقول الناس. لكن إن قابلت المازوخية في الرجال، مثلما يحدث في كثير من الأحوال، فإن ما يمكن قوله هو أن هؤلاء يبدون سمات أنثوية واضحة تماما. إن غياب الجنسانية الفاعلة يصوغ المرأة في قالب الكائن السلبي المستكين والمازوخي. ولذلك ليس من المفاجئ أن تعتبر الجرأة الجنسية لدى المرأة في رأي الإسلام متجهة إلى الخارج. فطبيعة جرأتها وفاعليتها وعدوانيتها جنسية على وجه الدقة. وتتمتع الأنثى (تبعا للإسلام) بجاذبية قاتلة تضعف إرادة الذكر في مقاومتها، وتقلص دوره إلى مجرد الإذعان السلبي. فليس لديه من خيار؛ إذ لا يملك إلا الاستسلام لجاذبيتها، ومن هنا أتى تماهيها مع الفتنة (الاضطراب والفوضى) والقوى الكونية التي تعصي أمر الله وتعادي المجتمع. روى جابر أن النبي رأى امرأة فدخل على زينب فقضى حاجته وخرج. وقال الرسول: (إن المرأة إذا أقبلت أقبلت بصورة الشيطان. فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله معها مثل الذي معها). علق الإمام مسلم، أحد المرجعيات الراسخة في الفقه السني، على هذا الحديث بالقول إن النبي كان يشير إلى ..السحر، إلى الانجذاب الذي لا يقاوم الذي غرسه الله في نفس الرجل. وكان يشير إلى اللذة التي يعيشها الرجل عندما ينظر إلى المرأة وإلى اللذة التي يحس بها مع أي شيء يتعلق بها. وهي تشبه الشيطان في سلطته على الأفراد، تلك السلطة التي لا تقاوم. هذا الانجذاب هو رابطة طبيعية بين الجنسين. فكلما التقى رجل بامرأة قد تحدث الفتنة: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما). المرأة التي (ذاقت طعم) الاتصال الجنسي هي الأشد خطرا. فالمرأة المتزوجة هي التي تواجه الصعوبة الأكبر في تحمل الإحباط الجنسي، وهي التي تجسد تهديدا استثنائيا للرجال حين يغيب عنها زوجها: (لا تدخلوا على المغيبات (اللاتي غاب عنهن أزواجهن) فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم). في الثقافة الفلكلورية المغربية على سبيل المثال، يتلخص هذا التهديد في الاعتقاد بوجود جنية بغيضة تدعى (عيشة القنديشة). وهي بغيضة بالتحديد لأنها شبقة وداعرة، تجوب الشوارع والأماكن المظلمة وقد تدلى ثدياها وشفتاها. أما تسليتها المفضلة فهي الانقضاض على الرجال من أجل غوايتهم لممارسة الجنس معها، ومن ثم اختراق أجسادهم في نهاية المطاف والبقاء فيها إلى الأبد ، ويقال عن ضحيتها عندئذ بأنه (مسكون). الخوف من عيشة القنديشة مهيمن على الحياة اليومية في المغرب. فالخوف من الأنثى التي تخصي الذكور يعتبر تراثا تقليديا يتخذ العديد من الأشكال في المعتقدات والممارسات الشعبية، وفي الكتابات الدينية والدنيوية في آن معا، وخصوصا في الروايات. يخترق الثقافة الفلكلورية المغربية موقف سلبي تجاه الأنوثة. فعشق امرأة يوصف في الأوساط الشعبية بأنه شكل من أشكال المرض العقلي، حالة عقلية مدمرة للذات. ويشير أحد الأقوال المأثورة إلى أن الحب مسألة معقدة، فإذا لم يدفعك إلى الجنون فهو يقتلك. أما أفضل مثال على هذه الريبة بالمرأة فيجسده الشاعر سيدي عبد الرحمن المجدوب الذي عاش في القرن السادس عشر، وتحولت أشعاره إلى أقوال مأثورة بسبب شهرتها وشعبيتها. في إحدى قصائده يشبه المجدوب النساء بالمراكب الخشبية المحكوم عليها بالغرق وعلى ركابها بالدمار. ثم ينصح الرجل بأن يحاذر المرأة ولا يثق بها كي لا تخونه، وألا يصدق وعودها كي لا تخدعه. وهو يؤكد أن السمكة بحاجة إلى الماء كي تسبح، أما المرأة فهي المخلوق الوحيد القادر على السباحة بدون ماء!. وأخيرا يقول إن كيدهن عظيم، ولكي أحمي نفسي سأهرب حتى النهاية، فالمرأة تتزنر بالأفاعي وتتزين بالعقارب. يواجه النظام الإسلامي تهديدين اثنين: الكفار من الخارج والنساء من الداخل. حدثنا آدم، حدثنا شعبة.. عن أسامة بن زيد عن النبي أنه قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). المفارقة أن النظريتين الإسلامية والأوروبية تصلان إلى نفس النتيجة الختامية: المرأة عنصر مدمر للنظام الاجتماعي: عند الغزالي بسبب فاعليتها، وعند فرويد بسبب لافاعليتها. لقد دمجت الأنظمة الاجتماعية المختلفة التوترات بين الدين والجنسانية بطرائق مختلفة. ففي التجربة الغربية المسيحية، جرى الهجوم على الجنسانية ذاتها، وانحطت إلى مرتبة البهيمية وأدينت بوصفها معادية للحضارة والتمدن. كما انشطر الفرد إلى ذاتين متناقضتين: الروح والجسد، الأنا والهو. وانتصار الحضارة تضمن في دلالته انتصار الروح على الجسد، والأنا على الهو، والانضباط على الفوضى، والروحانية على الجنس. لكن الإسلام اتخذ سبيلا مختلفا اختلافا جوهريا. فما تمت مهاجمته والحط من قدره ليس الجنسانية بل المرأة، كتجسيد للدمار والخراب، ورمز للفوضى واللانظام. فالمرأة فتنة، ونموذج يمثل الجموح الخارج عن حدود السيطرة، ومثال حي على أخطار الجنسانية واحتمالاتها الهائجة التي توقع الفوضى والانقسام. ولقد رأينا أن النظرية الإسلامية تعتبر الغريزة الفطرية بمثابة طاقة يمكن استخدامها بصورة بناءة بما يرضي الله ويفيد المجتمع إذا عاش الناس تبعا لشرعه. والجنسانية بحد ذاتها لا تشكل خطرا، بل على العكس، فلها ثلاث وظائف إيجابية حيوية. فهي تسمح للمؤمنين بإدامة نسلهم على الأرض، وهي حالة لا يمكن الاستغناء عنها إذا ما أريد للنظام الاجتماعي أن يتواجد على الإطلاق. وهي تخدم كـ(منبهة على اللذات الموعودة في الجنان) ، ولهذا فهي تشجع الرجال على السعي لدخول جنة الخلد في السماء وطاعة الله على الأرض. وأخيرا، يعتبر إشباع الرغبة الجنسية ضروريا لنجاح الجهود الفكرية. نظرية التسامي الإسلامية تختلف كلية عن التراث المسيحي الغربي كما يتمثل بنظرية التحليل النفسي الفرويدية. إذ يرى فرويد الحضارة باعتبارها حربا ضد الجنسانية. فالحضارة هي طاقة جنسية (تحولت عن هدفها الجنسي واتجهت نحو غايات أخرى، لم تعد جنسية بل أصبحت أكثر قيمة من الناحية الاجتماعية). أما النظرية الإسلامية فهي ترى الحضارة بمثابة نتيجة للطاقة الجنسية التي جرى إشباعها. وليس العمل عاقبة للإحباط الجنسي بل للجنسانية الراضية والمشبعة والمتناغمة: فإن النفس ملول وهي عن الحق نفور لأنه على خلاف طبعها. فلو كلفت المقاومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت وثابت، وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت. وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القلب. وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات. -المقال جزء من بحث للباحثة فاطمة المرنيسي بحث نشر كاملاً في كتاب صدر عن دار المدى مؤخراً بعنوان: المرأة والجنسانية في المجتمعات الاسلامية للباحثة التركية
منتدى آفاق الفلسفة و السوسيولوجيا و الأنثروبولوجيا :: منتدى الانثروبولوجيا :: انثروبولوجيا النوع الإجتماعي _الجندر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى